المرحلة الممتدة من العام 2000 الى العام 2005 إستعر فيها الخلاف حول عنوان خروج الجيش السوري من لبنان، قبل أن ينتقل بعدها إلى سلاح «حزب الله» الذي يبقى عنواناً خلافياً دائماً، ولكنّ العنوان الساخن اليوم هو التطبيع مع نظام الأسد.
 

كان يُفترض أن يدخل لبنان مع تأليف الحكومة في مرحلة سياسية جديدة عنوانها اقتصادي بامتياز، في ظلّ إدراك مكوّنات الحكومة دقة الوضع الذي لا يتحمّل التسويف والمماطلة والتأجيل ويستدعي علاجات سريعة وفورية، خصوصاً على أثر فراغ طويل وإدراك الجميع أنّ محاولات تسجيل النقاط في ملفات حساسة لن تؤدي إلى أيِّ نتيجة.

ولكن، ويا للأسف، استبق العنوان السوري اجتماع الحكومة من خلال الموقف الذي أطلقه الوزير الياس بوصعب وزيارة وزير النازحين صالح الغريب لسوريا.

وما حصل يمكن إدراجُه في سياق الخطأ غير المقصود، او التسرُّع العفوي، أو الإشارة السورية المطلوب إمرارها إلى الحكومة لبنانياً والنائب السابق وليد جنبلاط درزياً، وقد تعامل معها رئيس الحكومة سعد الحريري بالطريقة المناسبة وعلى مرحلتين:

المرحلة الأولى من خلال تأكيد أوساط «بيت الوسط» انّ زيارة الغريب «شخصية وغير رسمية»، والمرحلة الثانية من خلال استقباله بو صعب والغريب قبل جلسة مجلس الوزراء بغية احتواء مضاعفات الموقف والزيارة، والاتفاق على مقاربة موحّدة تحت سقف البيان الوزاري و«النأي بالنفس».

ولا حاجة الى القول إنّ المكوّنات الأساسية حريصة في هذه المرحلة على الاستقرار والانتظام المؤسساتي والابتعاد عن كل ما يمكن أن يعكِّر المناخات السياسية من أجل التفرُّغ جدّياً للأزمات المعيشية والاقتصادية، وهذا الحرص، وإن اختلفت أسبابُه بين فريق وأخر، إلّا أنه يشكّل تقاطعاً مشتركاً بينها.

فرئيس الجمهورية يبحث عن انجازات سريعة يطوي معها النقمة الشعبية على الفراغ وغياب العلاجات الجدّية لأوضاع الناس، ورئيس الحكومة يريد الاستفادة من الإجماع الخارجي على شخصه ودوره في تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» الذي يعيد ضخّ الأوكسيجين في عروق الاقتصاد اللبناني، و«حزب الله» يعمل على «شقلبة» الأولويات داخل بيئته من أولوية المقاومة إلى أولوية مكافحة الفساد، ويفضِّل في هذه المرحلة الإبتعاد عن المواجهات السياسية.

ولكن ما ظهر مع القمة الاقتصادية العربية الاخيرة التي انعقدت في بيروت من خلال افتعال مشاركة النظام السوري في القمة على رغم أنّ القرار في هذه المسألة يعود إلى جامعة الدول العربية، دلّ على وجود نية لـ«ربط نزاع» مستمرّ في هذا الملف ضمن ثلاثة اتّجاهات: توتير الوضع اللبناني وصولاً إلى مقايضة الاستقرار بالاعتراف الكامل بالنظام، تعزيز اوراقه الداخلية عن طريق الادّعاء باستعادة دوره الإقليمي، إستدراج التفاوض مع المجتمعَين العربي والدولي.

وعلى رغم وجود قرار لبناني لدى معظم القوى بالتزام التبريد السياسي والتركيز على الأولوية الاقتصادية، فإنّ النظام السوري لن يتوانى عن إقلاق راحة اللبنانيين بالضغط في كل الاتجاهات من أجل أن يبقى العنوان الأبرز لبنانياً ربطاً بأهدافه ومآربه، فيما كل من «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» يجد نفسَه في موقع الحريص على الإستقرار وعلى تجنّب الصدام مع النظام السوري، الأمر الذي سيُبقي لبنان ساحة تجاذب سياسية.

فالهدف الأول للنظام السوري هو العودة السياسية إلى لبنان، ولن يتردّد في استخدام كل الوسائل والأساليب الممكنة ليس لتحقيق هذه العودة التي أمامها صعوبات كبرى، ولكن لإبقاء عنوان التطبيع عنوان الاشتباك الأول، وبالتالي يجب التوقع من الآن أنّ ما حصل مع بوصعب والغريب سيتكرّر بأشكال ووجوه أخرى وفي مناسبات ومحطات مختلفة، لأنّ النظام السوري مستفيد من هذا الاشتباك ويريد تكراره وتطويره وتسعيره.

وإذا كان قد كُتِب على لبنان أو قدره أن تأتيه الأزمات من سوريا، وأن يبقى ساحة مفتوحة على معادلات النفوذ والاستقواء، فإنه كُتِب أيضاً على اللبنانيين عدم قدرتهم على الاتفاق على قضايا جوهرية تتصل بمصالحهم العليا وفي طليعتها السيادة الوطنية و«النأي بالنفس» الذي يبدو أنّ البعض لا يفقه جوهر معنى التحييد وأبعاده والذي تختصره معادلة ميثاق العام 1943 «لا شرق ولا غرب»، حيث إنّ تعددية المجتمع اللبناني وإنشداد كل فئة او جماعة في اتجاه معيّن تستدعي من جميع الفئات الابتعاد عن نزاعات المحاور بغية الحفاظ على الاستقرار اللبناني.

فلا استقرار بلا تحييد او نأي بالنفس، والنأي يوازي السيادة أهمية، لأنه في اللحظة التي ينقسم فيها الداخل ربطاً بمحاور الخارج تسقط السيادة وينهار الاستقرار، وهذا ما يعاني منه لبنان منذ العام 1969، ويستحيل أن تستعيد الدولة اللبنانية مقوّماتها السيادية قبل أن يتفق اللبنانيون على تحييد لبنان وإعطاء الأولوية للمصلحة اللبنانية.

وهناك فرصة جدّية أمام لبنان في حال نجح في التقاطها وهي قائمة على معادلة مزدوجة: حرص الخارج على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في لبنان، واستعداده لتوفير المظلة السياسية والاقتصادية له، وحرص الداخل على الانكباب على الوضع المعيشي والاقتصادي. ولكنّ السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: هل سيتمكّن لبنان من التقاط هذه الفرصة في ظلّ إصرار النظام السوري على انتزاع التطبيع معه بالقوة ومحاولة استعادته دوره الإقليمي من البوابة اللبنانية؟

صحيح أنّ النظام السوري لن يتمكّن من كسر معادلة الخارج والداخل الحريصة على الاستقرار، ولكنه في الوقت نفسه سيُبقي الوضع السياسي مشدوداً وساخناً ومتوتراً، ويصعب في اشتباكٍ من هذا النوع إبقاء الأمور تحت السيطرة، وهذا ما يريده تحديداً خصوصاً في ظلّ وجود فريق غير مستعدّ لترسيم حدود تدخّلاته، وقد تكون له مصلحة في ذلك، إنما الأمور ستكون بالتأكيد مفتوحة على شتى الاحتمالات.

فما بين العودة السياسية المستحيلة لنظام الأسد إلى لبنان، وما بين محاولاته المتواصلة لتحقيق هذه العودة على أرض خصبة، سيراوح الوضع بين هبّات ساخنة وأخرى باردة، إلّا في حال قرر النظام السوري ومَن يتعاون معه لبنانياً كسرَ التوازن القائم، فيعني عودة الانقسام العمودي والإطاحة بالاستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي.

لن تُكتب للبنان، ويا للأسف، الراحة السياسية ولو الموقتة، ويخطئ النظام السوري ومَن معه إذا اعتقد أنّ في إمكانه استعادة نفوذه في لبنان، أو بإحياء مجالس عفا عنها الزمن، ومَن يتحمّل مسؤولية تسخين الوضع السياسي هو الطرف الذي أطاح ويطيح سياسة «النأي بالنفس»، ويفتعل مواجهات تحت عناوين خلافية ظناً منه أنه يستطيع تحسين تموضعه السياسي.