في غمرة الخلط المتعمّد لوقائع التاريخ القريب للعراق لم يتسنَّ لشباب الجيل الحالي التعرّف على مسيرة بلدهم بموضوعية وحب للوطن ليتأكدوا، مثلما هم عليه شيوخ هذا الجيل المنصفين، من أن العراق كان على طريق النهوض المدني كأبرز بلد في المنطقة لامتلاكه العقول والثروة وإمكانيات التنمية، لولا الحرب العراقية الإيرانية وحماقة اجتياح الكويت لتنفتح فوهة الانهيار والتفكك والفوضى والظلام بعد الاحتلال الأميركي وهيمنة الإسلام السياسي على الحكم، والذي تحالف مع شبكة الفساد التي تشكّلت سريعا بدرجة غير مسبوقة ليصبح هذا البلد في مقدمة بلدان الفساد والفقر والأمراض وانعدام الخدمات.

وكان هناك إصرار من الأحزاب الحاكمة على تنفيذ برنامج عزل العراق عن محيطه العربي وغلق أيّ نافذة تساهم في تجاوز الظروف السيئة، مقابل فتح الباب من قبل قيادة الاحتلال الأميركي أمام إيران لتسريب نفوذها الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي في العراق، ومنع محاولة إعادة بناء دولة العراق المدنية لأنها ستتعارض مع منهج ولاية الفقيه الإيراني.

كان برنامج العزل متقن المضامين والأدوات في تشويه عروبة العراقيين فكريا بدمجها بفكرة القومية المتعصبة ووصف العروبيين سخرية بـ”القومجية”، أو بإطلاق الاتهامات السياسية للبلدان العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، بأنها وراء فعاليات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال بين 2003 و2011 لأن غالبية المقاومين من العرب السنة ومعروفة قصة اختراقهم من قبل إيران، واتهامهم في ما بعد بالإرهابيين بعد صناعة تنظيم داعش في العراق.

كان الهدف المهم هو محاصرة وعزل أبناء العراق والاستفراد بهم، وإشاعة روايات مفبركة ضد العرب بأنهم لا يريدون الخير للعراق “الديمقراطي” أما إيران فهي “تاج الراس″ لأنها أوت واحتضنت غالبية قادة البلد، أليست هي “مكان التقوى ومرجعية المذهب ونموذج الحكم الإلهي على الأرض لحين عودة الإمام المنتظر”، في مصادرة يائسة لخط التشيع العروبي ومركزه النجف.

لقد نظمت حملات منتظمة بواسطة وكلاء إيران الذين تدربوا على أساليب خداع العراقيين بعد أن امتلكوا مال الفساد الوفير من قوت الشعب، وإمكانيات السلطة لمحاصرة أيّ دعوة للانفتاح على العرب لصالح العراق والعراقيين، وقد انساق بعض زعماء العرب السنة حديثي النعمة والسياسة لحملات التشويه خوفا على مصالحهم الذاتية وتعايشوا مع وهم القوة الإيرانية في العراق، في حين كانوا يعرضون مظالم ملّتهم على بعض العواصم العربية الغنية استجداء للمنافع المالية.

لقد حقق مشروع عزل العراق أهدافا إستراتيجية وجيوسياسية مهمة وخطيرة تبلورت خاصة بعد رحيل الأميركان عام 2011 ودخول داعش المدبّر عام 2014 وساهم في تعزيز مكانة إيران بكونها المنقذ الأول للعراق، وبأنه لولا قاسم سليماني لكان داعش في بغداد في استحقار مهين لدماء شباب العراق الغيارى وتكثّفت حملات الجيوش الإلكترونية ضد بلدان العرب.

أما مرحلة ما بعد داعش فكانت تفترض أن تتقدّم فيها الأولويات الاقتصادية والسلم الأهلي والتنمية على جميع الاعتبارات الأخرى من أجل إعادة إعمار البلد، وأن تكون حكومة عام 2018 اقتصادية وليست حكومة ترضيات، لكن ذلك لم يحصل بل تمت إعاقة وتشويه محاولات الانفتاح الرسمي على العرب، نتيجة الحاجة المادية الحقيقية والمصلحية وليست ترجمة لشعارات عروبة العراق، حيث تتواصل حملات التشويه عبر وسائل إعلام الأحزاب العراقية الموالية لإيران.

أمثلة كثيرة لحملات الكراهية المبرمجة بأساليب ساذجة آخرها الحملة ضد الاتفاقية الأردنية العراقية التي وقّعها رئيسا وزراء العراق والأردن، حيث تحولت بنود هذه الاتفاقية في نظر دعاة العزلة إلى وثيقة سماح “لدخول البضائع الإسرائيلية للعراق عبر الأردن”، وهم يعلمون حساسية هذا الجانب في النفسية العراقية، كما تم وصف تلك البضائع بالرديئة وكأن البضائع الإيرانية هي الأجود في العالم.

وقبلها وُجّهت سهام التشكيك والسخرية لمبادرات السعودية بناء ملاعب رياضية في بغداد والبصرة، خاصة بعد حفاوة العراقيين بفريق كرة القدم السعودي في هذه المدينة، أو مبادرة الإمارات لإعادة بناء جامع “النوري” في مدينة الموصل التي حوّلتها الحرب على داعش إلى هيروشيما العراق، حيث لا تزال بعض جثث الضحايا الموصليين تحت الأنقاض رغم مرور سنة وثلاثة أشهر على انتهاء الحرب. علماً بأنه لم يتم رصد ميزانية منصفة لإعادة إعمار الموصل التي تم الانتقام من أهلها.

في هذا الوقت يأمر محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني بعض ممن التقاهم من أعوانهم خلال زيارته الأخيرة للعراق بأن تكون الأولوية لإيران في إعادة الإعمار، في حين أنها لم تقدّم دولارا واحدا للعراق بل تسرق أمواله جهارا وعقود الطاقة والكهرباء مثال على مستوى الاستغلال والوصاية على هذا البلد، ولو تجاوزت الحكومة العراقية حرجها لتقدّمت بطلب الكهرباء والطاقة من السعودية أو الكويت أو لتعاقدت مع واحدة من الشركات العالمية.

إن بعض السياسيين العراقيين الموالين لنظام ولي الفقيه الإيراني مصابون بالسادية المفرطة حيث يتلذذون بتعذيب العراقيين لإبقائهم أسرى الحرمان والفقر وغياب الخدمات وهم أبناء بلد النفط، ويمنعون عنهم أيّ محاولة للعون من أشقائهم العرب المقتدرين ردّا لعرفان أهل العراق تاريخيا وحضاريا. هؤلاء الساسة يمنعون العراقيين من التطلع خارج أسوار الجهل التي نصبوها على خارطة العراق العربي، لأن العراق الكردي قد نجا من طوق العزلة هذا، رغم أن هذه المحاولات فاشلة لأن سياسة العزل والتجويع قد انتهى عصرها. فشباب العراق وخصوصا أبناء الشيعة تجاوزوا مرحلة كشف الخديعة وتعرفوا على تفصيلات كذبة الأحزاب وانحيازها للفساد والنهب وتفضيلهم مصالح الآخرين على مصالح البلد، وتيقن هؤلاء الشباب الذين لبّوا نداء الوطن وطردوا داعش بدمائهم الزكية بأن إيران لا تريد لهم الخير والرفاه والحرية والوعي، لأنها ضد الوعي والثقافة والانفتاح والسلام والمدنية، وتريد إبقاء العراق ضعيفا محتاجا لها رغم أنه بلد غنيّ. تحقق للشباب الشيعي العراقي هذا الكشف في السنوات الأخيرة بسبب تراكم المشاكل والأزمات وبسبب نعمة التواصل عبر الإنترنت التي وفرتها لهم تقنية “الشيطان الأكبر أميركا”، إضافة إلى عمق حسهم المعرفي بأنهم تعرّضوا إلى أكبر خديعة في القرن الواحد والعشرين وارتضوا لتلك الزعامات أن تقودهم.

لو تخلّص العراق من هذا الغول الملتف على رقبته فإن لديه جميع عناصر العافية والنهوض، لاستعاد خلال فترة وجيزة قدراته الاقتصادية لتتطابق مع عنوانه كبلد نفطي غني، وهناك إمكانيات حقيقية لاسترجاع العراق لوظيفته التاريخية في معادلة توازن القوى في المنطقة، ولانحنت له الكثير من الرؤوس التي تهينه الآن، ولعادت بغداد كما كانت عروس الشرق يتغنّى بمجدها الشعراء.