طائر الشوك:

هناك أسطورة مشابهة لأسطورة طائر الفينيق تتحدث عن طائر زاهي الألوان، يصدح مرة واحدة في حياته بشدو أجمل وأعذب من أيّ مخلوق آخر على وجه الأرض.

من يوم مغادرته العش للمرة الأولى، يبدأ بالبحث عن شجرة عليق منذورة له، فلا يرتاح ولا يتوقف عن الطيران قبل أن يعثر عليها، وعندها يحطّ عليها ويشرع بالغناء الى أن يقترب من شوكة حادة ليغرزها في جسمه.

ومن خلال آلام الإحتضار، يتعالى الطير على معاناته لينشد أجمل الألحان لتسمعها كل البشرية، وحتى الملائكة تقف مشدوهة صامتة ناصتة لشدوه. والعبرة هنا هي أنّ الإبداع والكمال لا يمكن بلوغهما دون تضحيات مؤلمة.

في العام 1977، أصدر الكاتب «كولن ماك كلوغز» روايته المشهورة «طيور الشوك» والمعروفة أيضاً في لغات أخرى بـ«الطيور تختبئ لتموت» وهي تروي قصة رجل دين يقع في تجربة حبّ جارف لامرأة ومن بعدها يجبره واجبه على سلسلة من التضحيات.

وقد تحوّلت هذه الرواية الى فيلم سينمائي قام ببطولته الممثلان «ريتشارد تشمبرلاين» و«جين سيمونز» ونال شهرة واسعة في ثمانينات القرن الماضي.

بين الالتزام والتضحية

لم يكن يخطر ببالي كتابة هذه المقالة، فأنا لست في وارد إعطاء الدروس للغير، فلكل فرد ظروفه ومنطقه اللذان لا يتطابقان مع غيره من الأفراد، وبالتالي فإنه من غير الممكن إسقاط تجربة أيّ إنسان على تجارب الآخرين، ولا حتى اعتبار أنّ منطق ومبرّرات أيّ فرد، مهما بدت سامية، هي في النهاية ما يجب أن يحكم مسار الأمور ووقائعها.

في المحصلة لا أريد أن أفرض تجربتي الشخصية ولا منطقي الخاص على الأصدقاء أو الزملاء أو الشخصيات الذين نذروا أنفسهم للخدمة العامة من خلال المواقع العامة في عز حشرة وضوضاء تاليف الحكومة تحت عناوين وطنية عامة أحياناً، ولكنها تصغر لتصبح عشائرية ومذهبية وشخصية في أحيان أخرى.

ولكن إذا انطلقنا من أنّ المنافسة هي فعلاً على الخدمة العامة، ومن قناعتنا بأنّ المسألة ليست مرتبطة بقضية فرد بحدّ ذاته في السلطة، فإنّ الهدف السياسي والاقتصادي والاجتماعي من التنطّح لموقع عام يصبح أهمَّ بكثير من الرغبات وأحياناً الشهوات التي تحمل أيّ فرد منا على الإصرار على منافسة مَن هم يحملون العناوين نفسها ويسعون لتحقيقها من خلال وجودهم في السلطة.

لذلك، فإن كان هدف الفرد بهذا السمو، فإنه من الواجب طرح المسألة بموضوعية كاملة بناءً على الحسابات التي تتحكّم بها كيفية إنجاح العناوين السياسية العامة، وهذه المسؤولية يجب أن تُترك للقيادات التي اقتنعنا بكفاءاتها ونزاهتها لتختار وتمون على الجميع، حتى ولو لم نكن مقتنعين بشكل مطلق بمنطق اختيارها لأنّ ما تراه وتعرفه هذه المرجعيات قد يكون أوسع ممّا يعرفه الأفراد منا، وهذا منطق الأمور على كل الأحوال.

لماذا هذا الكلام الآن؟

لأنه بعد إنجاز التركيبة الوزارية المستحيلة، أصبح من واجب بعض منا أن يتفهّموا أنّ دورهم محدود بضوابط التقليد والمصالح المتبادلة، ومن المنطقي عندها أن يحاولوا المحافظة على الكرامة الشخصية بالإبتعاد ومراجعة الخيارات إلى حدّ الإعتكاف أو تغيير المسار.

إنّ مسألة الموقع العام لبعضنا هي تكليف للمزيد من الخدمة العامة وليس تشريفاً، وقد تضعهم هذه المسؤولية في نوع من الحَرج والمأزق عندما تتضارب قناعاتهم مع واقع الموقع وتشعّباته في المصالح المتضاربة والمتقاطعة بين أصحاب الحلّ والربط. في هذه الحال، قد يكون فقدان الموقع للسعي إلى الخدمة أفضل مخرج له من مأزق الوقوف على حافة السقوط...

بعض هؤلاء لم يعتد على إطلاق هتاف «بالروح بالدم نفديك يا زعيم»، وقادرون على قول رأيهم بالملآن أمام الزعيم، حتى وإن خالفوا رأيه وأزعجوه بكلامهم الواضح، ومع ذلك فهم دائماً ينبرون للدفاع عمَّن قبلوا به رمزاً لالتزامهم.

إنّ مصيرية المواجهة المستمرة في لبنان تفرض علينا أن نضع تضحياتنا الشخصية في خدمة ما نؤمن به، حتى ولو كان على حساب بعض القناعات الجزئية لكل فرد منا، ولكن قد يكون من الواجب الوقوف والتأمّل بعد كل محطة.