ربما شكَّل مجموع كلمات النواب الـ 54 الذين تعاقبوا على الكلام في جلسات مناقشة البيان الوزاري للحكومة سابقة لجهة تمركز الغالبية الساحقة من مداخلاتهم على مسألة الفساد بكل تشعباتها. يشكل هذا التطور امرا إيجابيا من الناحية المبدئية لجهة ان الإطلالات الاولى للنواب الجدد خصوصا جاءت لتضرب على أسوأ ما تعانيه البلاد من “أوبئة” اخلاقية وسياسية ومجتمعية ايضا، كما لجهة تعميم ثقافة مكافحة الفساد وجعلها تغدو لغة تحفيز دائمة على آليات انتشال لبنان من هذه الآفة. غير ان الامر الذي يثير الشبهة في هذا الاندفاع شبه الجماعي لتبنّي خطاب مناوئ اولا وأخيرا للطبقة التي يتحدث باسمها النواب، هو ان يصبح خطاب مكافحة الفساد متى ابتُذل وصار بمثابة ترداد ببغائي لاثارة الشعبوية وتوظيفها من دون اي محتوى جدي، اسرع السبل الى احباط الناس مجددا وضرب كل الآليات الجادة المطلوبة لإنقاذ الدولة من انهيارات محتمة ما لم تنشأ بسرعة هيكليات تنبئ الرأي العام الداخلي والأسرة الدولية بان عملية موجعة ومكلفة للغاية بدأت في لبنان لاستئصال الفساد بمختلف وجوهه. والحال ان ثمة الكثير مما لا يمحض الخطاب النيابي والسياسي الغالب في الآونة الاخيرة الصدقية اللازمة حول مكافحة الفساد، بل ثمة شبهات تثار بواقعية حيال توظيف هذا الصعود في الخطاب المناهض للفساد لتصفيات وتوظيفات سياسية.

ولعل افضل ما تضمّنه رد الرئيس سعد الحريري على مداخلات النواب في جلسات الثقة إشارته الى ان المبالغات التي تُعتمد في موضوع الفساد تهدف الى حجب مسؤولية معطلي الدولة والحكومات طوال ما يزيد عن خمس سنوات تعطيل. ولعله من الواضح تماما ان العودة الى التركيز في اتجاهات بعض الافرقاء على ملفات محددة من الحقبات السابقة تستبطن نزعة الى تحميل الخصوم تبعة الإهدار والفساد وارتفاع المديونية وتبرئة ذمة هؤلاء الافرقاء من معظم المسببات الواقعية التي يتحملون مسؤوليتها في تضخم المديونية والفساد والإهدار. هذا الاتجاه لا يوحي بان الحكومة مقبلة على وحدة حال في الحدود الدنيا الممكنة لمكافحة الفساد ما دام ثمة مكونات فيها تعتمد اطلاق خطاب شعبوي سرعان ما سيثير معارك سياسية داخل مجلس الوزراء ما لم تترجم تعهدات الحكومة بالجدية الحاسمة والقانونية الصارمة في هذا الملف.

لقد بدت الجلسات النيابية لمناقشة البيان الوزاري في جانب منها اشبه بمباراة زجلية، ومع ذلك فان ما تضمنته مداخلات النواب من ملفات وقضايا واتهامات تتصل بموضوع الفساد تحديدا تشكل إحدى اكبر المضبطات الاتهامية التي من شأنها ان تشغل النيابات العامة القضائية سنوات وسنوات لمجرد اعتبار هذه الملفات بمثابة إخبارات لا اخباريات تفتقر الى أسانيد. وفي ظل هذا المناخ يُخشى فعلا ان يضيع الاتجاه الجدي الى تخفيف أسوأ صورة فساد ملتصقة بلبنان اليوم بالطابع الشعبوي والتعميمي او بالتوظيف السياسي المتسلل من وراء اتجاهات عطلت الدولة طويلا وتسعى الآن الى الانتقال الى مرحلة جديدة من السيطرة والاستئثار بحجة مكافحة الفساد بما يُخشى معه تحويل مجمل هذا الاستعراض الكلامي الى نشيد فارغ. وثمة الكثير من تجارب سابقة صعدت فيها عناوين برّاقة خدّرت اللبنانيين ولكنهم استفاقوا بسرعة على إحباطات التكاذب والشعبوية.