في طريقه إلى بيروت نسي محمد جواد ظريف الواقع الكارثي للأرقام المتهاوية في إيران، قبله كان السيد حسن نصر الله قفز فوق هذا الواقع، عندما عرض أن تقوم طهران بتقديم المساعدات العسكرية للجيش اللبناني، وبأن تساعد الحكومة اللبنانية في تأمين الأدوية بأسعار رخيصة، وأن تقوم بحل مشكلة الكهرباء عن طريق الاستجرار عبر العراق فسوريا!

عجيب، تماماً مثل قصة الأعمى الذي يريد أن يساعد الأعور في اجتياز الطريق، ولكن العتب على من يصدّق، وخصوصاً في ظل الوضع الاقتصادي الإيراني المتهالك، الذي يحتاج إلى المساعدة أكثر بكثير مما يحتاج لبنان، هذا بغض النظر أصلاً عن التعقيدات، التي تجعل الحديث عن المساعدة الإيرانية صعباً ومعقداً ومستحيلاً، لأسباب كثيرة ليس أقلها العقوبات الدولية المفروضة على إيران.

قبل الحديث عن هذه الصعوبات والتعقيدات، دعونا نتوقف قليلاً أمام مؤشرات الأرقام التي تؤكد أن إيران في حاجة إلى من يساعدها أكثر من لبنان إذا كان لبنان راغباً أو حتى قادراً على قبول مساعداتها، فقبل عشرة أيام تقريباً كان رئيس البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي، قد أعلن عن حذف أربعة أصفار من العملة الإيرانية «التومان».

يقول همتي إن التضخّم أفقد النظام المالي أكثر من نصف قيمة العملة المحلية، وإن ثمن المعدن الذي تسك منه النقود، بات يساوي أكثر من قيمتها المالية، وإن تكلفة طباعة العملة الورقية من فئة 500 تومان باتت تصل إلى 400 تومان، وبعد حذف الأصفار الأربعة فإن المليون تومان سوف يساوي مائة تومان!

لا داعي إلى الحديث عن أن الأزمة الإيرانية إلى تصاعد والإضرابات لم تتوقف، ولكن السؤال البديهي يبقى، كيف يمكن الحديث عن بلد يعرض مساعدات تكلّف المليارات، حين يعترف قادته مثل المرشد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني، أن إيران تواجه أصعب وضع اقتصادي منذ أربعين عاماً، وأن البلاد واقعة تحت ضغط أزمة، دفعت المستشار العسكري لخامنئي اللواء يحيى رحيم صفوي إلى التحذير من أن إيران قد تواجه مصير فنزويلا، هذا في حين يحذّر روحاني علناً من «أن القادة الإيرانيين قد يواجهون مصير الشاه نفسه إذا تجاهلوا الاستياء الشعبي، وأن النظام السابق فقد كل شيء لأنه لم يسمع صوت الشعب وانتقادات المواطنين»!

ولأن الشيء بالشيء يُذكر لست أدري لماذا يتجاهل المسؤولون في طهران وسط أزمتهم الاقتصادية المتصاعدة منذ أعوام، صراخ المتظاهرين المعترضين على التدخلات الإيرانية في المنطقة: «لا سوريا ولا لبنان… تذكروا إيران»!

هؤلاء المسؤولون يتجاوزون كل هذا الواقع، ويهبط وزير الخارجية محمد جواد ظريف في بيروت متحدثاً عن استعداد إيران لتقديم المساعدات إلى لبنان، وهو ما جعل الكثيرين يقولون: لماذا لا يساعد الإيرانيون أنفسهم قبل عرض المساعدة على لبنان؟

لكن القصة في الواقع ليست قصة مساعدات، ثم إنه ليس من عادة طهران أن تهبّ لتهنئة لبنان بتشكيل الحكومات الجديدة، القصة حاجة إيران الملحة إلى منصة أو شرفة تطلق منها مجموعة من الرسائل في اتجاهات كثيرة، وعلى مفترقات دولية حاسمة ستزيد من الضغط على النظام الإيراني، وفي الواقع لم تكن طهران تملك شرفة أفضل من الشرفة اللبنانية، وخصوصاً بعد الحضور الوازن لـ«حزب الله» سواء في الانتخابات النيابية كما هو معروف، أو من خلال إسناد وزارة الصحة في الحكومة الجديدة إلى الحزب عبر الوزير جميل جبق، (تردد أنه يحمل الجنسية الأميركية!).

وفي السياق كانت الولايات المتحدة عارضت بقوة إسناد هذه الوزارة الحيوية إلى «حزب الله»، وهو ما أبلغه مساعد وزير الخارجية ديفيد هيل وقائد المنطقة الوسطى الجنرال جوزيف فوتيل، ونائب وزير الخزانة مارشال بيلنغسلي إلى المسؤولين في بيروت، بما يعني استطراداً أن طهران أرادت أن توجه رسالة إلى واشنطن بهدف التذكير بما زعمته مراراً من أنها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية بينها بيروت!

وللشرفة اللبنانية أهمية لجهة إطلاق ادعاءات إيران هذه، ليس لأنه يقع على الجانب الشرقي للمتوسط فحسب، بل لأنه يقع إلى الحدود الفلسطينية المحتلة، ما يعطي طهران دائماً زخماً في شعارات المقاومة والتحرير والقدس.

كانت الزيارة محاولة للتنفس خارج المقاطعة والعقوبات والأزمات المتلاحقة، وهي ليست حصراً مع الولايات المتحدة والرئيس دونالد ترمب، ذلك أن وصول ظريف إلى العاصمة اللبنانية، جاء تماماً عشية «مؤتمر وارسو» الذي هندسته واشنطن وحضرته 76 دولة غربية وعربية، تحت عنوان «مواجهة إيران وتطويق نفوذها في المنطقة»، الذي عُدّل ليصير «تسويق السلام والأمن في الشرق الأوسط»، ولكن هذا التسويق يستلزم حصراً مواجهة التدخلات الإيرانية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، لهذا تعمّدت طهران عبر بيروت، أن توحي لهذا المؤتمر أنها تملك نفوذاً ولها نيات حسنة فها هي تعرض المساعدات على لبنان!

وتأتي الزيارة أيضاً بالتوازي مع انفجار الأزمة الإيرانية مع الدول الأوروبية، ووصول خامنئي إلى حد التلويح بإطلاق شعار «الموت لأوروبا»، تماماً مثل شعار «الموت لأميركا» الذي وضع لها إطاراً طريفاً ومخففاً له، عندما قال إن المقصود هو الموت فقط لترمب ومستشاره للأمن القومي جون بولتون ووزير خارجيته مايك بومبيو، والخلاف مع أوروبا يأتي على خلفية عدم ثقة طهران، بأن الآلية الأوروبية INSTEX التي وضعتها فرنسا وألمانيا وبريطانيا لتنظيم أطر تجارية مع طهران تساعدها نسبياً على الالتفاف على العقوبات الأميركية، وفي مطلق الأحوال سبق لظريف مع عودة العقوبات الأميركية، أن قال صراحة إن أوروبا أعجز من أن تساعد إيران.

لا داعي للحديث عن معالم الاشتباك المتصاعد والحتمي بين طهران وموسكو سواء بسبب تنسيق روسيا مع تل أبيب حيال الغارات الجوية على المراكز الإيرانية، وسواء حيال الخلاف على من يأكل الجبنة السورية، ثم إن العلاقة مع الشريك التركي ليست على ما يرام في ظل الخلاف على إدلب.

وسط هذا الجو المقفل اقتصادياً في الداخل وسياسياً مع كل الخارج تقريباً، لم تجد طهران سوى المنصة اللبنانية تطل منها لا للتذكير بنفوذها، بل للتلويح باستعدادها للدخول في مقايضات مستحيلة، بمعنى القول لواشنطن، نحن عندنا نفوذ في المنطقة تعالوا نتفاهم هنا مقابل التفاهم على ما عندنا من خلافات هناك، لكن المنصة اللبنانية ليست قادرة ولا كافية لفتح نوافذ تساعد إيران على التنفس غرباً!

بالعودة إلى حكاية المساعدات التي رفضها لبنان، واضح أن الجيش اللبناني الذي بنى عقيدته العسكرية الدفاعية على المدرسة والمساعدات الأميركية والأوروبية، ليس في وارد تغيير هذه العقيدة، ثم إن الصواريخ التي تعرضها إيران لا تثبت فاعليتها في سوريا مثلاً، وبالنسبة إلى الدواء فإن لبنان متقدّم صناعياً في إنتاج أرقى الأدوية وفي وسع لبنان أن يبيع إيران الدواء إذا سمحت العقوبات، أما بالنسبة إلى الكهرباء فإن تجربة البصرة الملاصقة لإيران لا تشجع، فكيف بلبنان البعيد آلاف الأميال؟