هناك اعتقاد سائد أنّ الشعب اللبناني لا ينتفض ولا يثور لأسباب طائفية واعتبارات اجتماعية، لكنّ انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005 أثبتت خلاف ذلك، هذه الانتفاضة التي أطلق اغتيال الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005 شرارتها الكبرى.
 

إرتبط اسم رفيق الحريري بـ«اتفاق الطائف» تحضيراً وتنفيذاً، فواكب الاجتماعات التي مهّدت لهذا الاتفاق، وكان حاضراً في كواليس النقاشات واللقاءات، ودخل المعترك السياسي من باب رئاسة الحكومة على أثر مقاطعة واسعة لانتخابات 1992 كانت تستدعي نقزة إيجابية تطوي صفحة المقاطعة وتستوعبها وتمتصّها، وتعطي الناس أملاً اقتصادياً على أثر «ثورة الدواليب» التي أدّت إلى سقوط حكومة الرئيس عمر كرامي.

تميّز الشهيد الحريري ببراغماتية عالية، فلم يشأ مواجهة الضوء الأخضر المُعطى أميركياً لسوريا في لبنان، بل تعامل معه أمراً واقعاً لا يستطيع تغييره، واضعاً كأولوية الدخول في الحياة السياسية وتمتين وضعه السياسي.

وبالفعل ما هي إلّا سنوات حتى نجح في أن يُغلِق، بنحوٍ أو بآخر، أبواب بيوتات سُنيّة عريقة، وتحوّل الرقم الأصعب سنياً ووطنياً وبات محور الحياة السياسية.

وقد تعامل معه النظام السوري بسياسة مزدوجة، فهو في حاجة إليه من اجل الاستقرار في لبنان وتغليب الجانب الاقتصادي على السياسي تجنّباً للتركيز على الوجود السوري في لبنان، كذلك هو في حاجة إليه من أجل تجسير العلاقات مع دول العالم إلى درجة انه أطلق عليه تسمية «رئيس وزراء لبنان ووزير خارجية سوريا».

ولكنّ في المقابل كان النظام السوري يتعامل مع الحريري بحذر شديد، لأنه يخشى من حجم ثروته وحجم علاقاته الخارجية وحجم شعبيته الآخذة في التوسع التدريجي، ولذلك كان يسعى دائماً إلى تطويقه والتشويش عليه ومحاصرته ومنعه من تحقيق الإنجازات حتى الاقتصادية، ومقولة انّ النظام السوري كان قد أطلق يد الحريري اقتصادياً و«حزب الله» أمنياً في فصل دقيق بين الشق الاقتصادي والشق الأمني تستدعي المراجعة والتدقيق، لأنه حتى في الملف الاقتصادي كان يضع العصي في دواليبه بغية منعه من تحقيق الانجازات التي يطمح الى تحقيقها.

وغير صحيح انّ تحجيم الحريري بدأ على يد الأسد الابن وليس الأب بحجة تسلّمه الملف اللبناني، بل انّ إرادة تحجيمه كانت من الأسد الأب تحديداً، ولكن من دون إخراجه من الحياة السياسية، إذ كان يثق أنه بشخصه قادر على ضبط التوازنات، فيستفيد من علاقات الحريري ودوره في خدمة المشروع السوري، ويعمل في المقابل على تطويقه بالمقدار المطلوب داخلياً للتخفيف من تأثيره على هذا المشروع، وما ينطبق على الحريري ينسحب، ولو على نطاق أكبر، على الموازنة بين علاقة دمشق مع طهران وعلاقتها مع الدول العربية، والخليجية تحديداً.

ومع رحيل الأسد الأب الذي تزامن مع الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، ولاحقاً مع هجمات 11 أيلول وتداعياتها على كل المنطقة بدءاً من الحرب على «طالبان» في افغانستان وصولاً إلى صدام، نشأت في لبنان معارضة داخلية قوية قادتها بكركي وراحت تتوسّع إلى ان شملت تيار «المستقبل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي»، فشعر النظام السوري بالخطر على وجوده في لبنان، وبالتالي لم يجد سوى قرار التخلّص من رفيق الحريري من أجل إعادة الوضع تحت السيطرة.

وخلافاً لكل الاغتيالات السابقة التي كانت تعيد بمفاعيلها البلاد إلى الوراء، فإنّ اغتيال الحريري دفع بالوضع قدماً إلى الأمام في شكل غير محسوب ولا متوقع، وإلّا لما كان أقدم هذا النظام على عملية الاغتيال التي فعلت فعلها بـ3 اتجاهات أساسية: توحيد الشريحة الأكبر من اللبنانيين حول ضرورة خروج الجيش السوري من لبنان، صدور موقف دولي واضح بضرورة أن ينفّذ النظام السوري القرار 1559 بالخروج من لبنان، وخروج الجيش السوري في نيسان 2005 دفعة واحدة.

وإذا كان لا يمكن التقليل من حالة التعبئة التي ولّدها الوجود السوري بين عامي 1990 و2005، والتي كانت قد بدأت مسيحياً قبل أن تتمدد سنياً ودرزياً وتحوِّل البيئة اللبنانية بيئة جاهزة وحاضنة لمواجهة هذا الوجود، إلّا انه لا يمكن التقليل أيضاً من الشرارة التي أطلقها اغتيال الحريري في وقعها المفاجئ باغتيال شخص مسالم وبعد 15 عاماً على انتهاء الحرب، وفي شكلها الإجرامي بتدمير موكب عن بكرة أبيه، وبالتالي نزلت على اللبنانيين كالصاعقة، وكذلك على المجتمعين العربي والدولي اللذين تحرّكا بنحو غير مسبوق لتوفير الحماية الدولية للبنان.

ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل أنّ مفاعيل اغتيال الحريري ما كانت لتكون نفسها لو طاول الاغتيال شخصية أخرى؟

بالتأكيد كلا، وهذا ما يؤكد أنّ تقاطع عوامل عدة مجتمعة حول شخص الحريري قاد ووَلّد انتفاضة الاستقلال، من حيثيته السنية، إلى شبكة علاقاته العربية والغربية، وما بينهما اغتياله في حقبة سلمية وعشيّة انتخابات نيابية تجري على وقع نضوج مناخ معارض تقوده بكركي تحت عنوان إخراج الجيش السوري من لبنان.

فلا يمكن الكلام عن «ثورة الأرز» و«انتفاضة الاستقلال» في 14 آذار 2005 من دون الكلام عن 14 شباط التي كانت محطة تأسيسية لكل ما لحقها وتبعها، فدماء الشهيد الحريري فتحت الباب أمام استقلال لبنان من الاحتلال السوري وعودة الحرية السياسية إلى اللبنانيين.

ولم يعد في الإمكان القول بعد 14 شباط ومن ثم 14 آذار انّ الشعب اللبناني لا ينتفض ولا يثور، وانّ الترسيمات الطائفية تحول دون ذلك، إنما لكل انتفاضة وثورة ظروفها السياسية والاجتماعية، ولذلك لا يجب استبعاد ثورة جديدة بعناوين جديدة، ولو بعد حين.