هي قُبلة الغائب، وحُضن الحبيب، وكيف يعيش العاشق العربي دون لجوئه مرة واحدة إلى أُغنيات أم كلثوم؟ هي التي درّبت العشاق في بلاد العرب على نطق "الآه" لتنفخ في كور نيران عشقهم وتشكي ظلم الحب ومرارته ثم تتساءل وقد قهرها الهوى: "هو صحيح الهوى غلّاب؟" مُجيبة لاحقاً وكأنها تقرُّ بهزيمتها: "ماعرفش أنا".
 
علاقة أم كلثوم شبه المُقدّسة بجمهورها الذي كان يطلق وهي تغني عبارات "عظمة على عظمة" و"لسة بدري يا ست" مثلت مادة كتابة دسمة لكتاب كثيرين. ووسط حالة العشق التي وصفها البعض بـ "السحر الحلال" تساءل الكاتب والناقد موسى الشديدي الذي يُفضّل تعريفه باللا معياري الجنسانية: ماذا عن جنسانية أم كلثوم؟
أراد الشديدي في كتابه "جنسانية أم كلثوم" الذي صدر الأحد 10 فبراير 2019 إلقاء الضوء على ما كُتب وقيل من تلميحات حول جنسانية "الستّ" طيلة أربعة عقود، وتحليل النصوص والمشاهد التي وصفها بـ "المُبعثرة" فقام بنقدها محاولاً تشكيل صورة متكاملة لاسترجاع جنسانية أم كلثوم الضائعة.
 
تفاصيل مُثيرة أرّخها مقربون من أم كلثوم، جمعها الشديدي وحلّلها، لافتاً إلى أن رفض أم كلثوم معايير المُجتمع عن الجنسانية والأُنوثة والزواج يستحق عملاً "متواضعاً" تخليداً لها، على حد تعبيره.
في حوار مع رصيف22، قال الشديدي إنه يُحاول في كتابه ترسيخ مفهوم حرية الجسد وكسر الثنائيات والمعيارية (السمات التي ينسبها المجتمع إلى كلا الجنسين) مؤكداً: مُمارسة أم كلثوم الجنس مع الرجال أو مع النساء أمر لن يُغير نظرتي لها على الإطلاق، لكنني أستغرب ممن يرفض أي احتمال آخر وكأنهم يقولون: سنكرهها إن كانت قد مارست الجنس مع النساء.
 
وأوضح الشديدي مفهوم الجنسانية قائلاً إنه كُل ما يتعلق برؤيتنا لأنفسنا ككائنات لها جنس "تتقمصه وتلبسه وتمارسه وتتخيله وتؤديه" مُشيراً إلى أن هُناك عدداً لا يحصى من المقالات والنصوص التي ذُكر فيها أن أم كلثوم لم تكن امرأة لكن لم يستطع أحد القول إنها كانت رجل، لافتاً إلى أنها "حطّمت" كل معايير الجنسانية بتصرفاتها التي قد يكون منها: رفضها الزواج المُبكر وعدم إنجابها بل تبنيها.
 
ويُضيف لرصيف22 أن أم كلثوم لم تكن ضحية مُجتمع يفرض "الأنوثة القسرية" ويعتبر المرأة مُجرد "جسد أي مساحة سياسية بامتياز، كالأرض، يمكن احتلالها وتحريرها" على حد تعبيره، لافتاً إلى أنه يتم تدريب الإناث على سلوكيات معينة بشكل "قسري" مثل "سكري رجليكي" و"عيب البنت تعلي صوتها" إلى جانب تدريبهن على الطهي كجزء من الأنوثة وتدبير المنزل ووضع مساحيق التجميل وارتداء حذاء ذي كعب عالٍ وحمالة صدر، مُشيراً إلى أن عدم تقيد أم كلثوم ببعض المعايير التي بناها المُجتمع جعل فنانات عصرها يتهامسن: هي بنت ولا ولد؟
 
أعادنا الشديدي في كتابه إلى لحظات ولادة أم كلثوم حين اتجهت كُل الأنظار نحو فخذيها وتكاثرت الهمسات والغمزات تسأل عن جنسها حتى قالت القابلة بصوت كئيب: بنت. "معلش"، قالت النساء لفاطمة المليجي، والدة أم كلثوم. فكان زوجها مؤذن مسجد قرية طماي الزهايرة إبراهيم السيد البلتاجي يدعو ربّه أن يُرزق بشقيق لابنه خالد.
 
كبرت أم كلثوم في قرية فقيرة وكان حال عائلتها المادّي بسيطاً، ما جعل والدها يُوافق على غنائها في حفلات الأغنياء مُقابل المال ولكنه تحايل على التقاليد بتنكرها بـ "عقال" لتبدو صبياً وسط مُجتمع يؤمن بأن "صوت المرأة عورة".
 
يقول الشديدي لرصيف22 إن تنكر أم كلثوم كان "مُسلياً لها على ما يبدو"، لافتاً إلى أن ما عاشته في البدايات كان أشبه بلعبة لها: بنت تلعب دور ولد، مُضيفاً أنها كانت على دراية بنظرية الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر دون أن تلتقي بها: "الجنس هو بنية اجتماعية".
 
ولفت إلى أن تنكر أم كلثوم على مدى 11 سنة ساهم في تحريرها من قيود مجتمعية عديدة، حتى مع تخلّيها عن العقال واستبداله بفساتين حين انتقلت للغناء في القاهرة عام 1923، مُشيراً إلى أن لقبها "الست" لا يعني "السيدة" ولا "الهانم" ولا "الآنسة" بل "المُتسيدة" البعيدة كُل البعد عن الاستكانة والخضوع والرقة.
هي قُبلة الغائب، وحُضن الحبيب، وكيف يعيش العاشق العربي دون لجوئه مرة واحدة إلى أُغنيات أم كلثوم؟ هي التي درّبت العشاق في بلاد العرب على نطق "الآه" لتنفخ في كور نيران عشقهم وتشكي ظلم الحب ومرارته ثم تتساءل وقد قهرها الهوى: "هو صحيح الهوى غلّاب؟" مُجيبة لاحقاً وكأنها تقرُّ بهزيمتها: "ماعرفش أنا".
موسى الشديدي لرصيف22: مُمارسة أم كلثوم الجنس مع الرجال أو مع النساء أمر لن يُغير نظرتي لها على الإطلاق، لكنني أستغرب ممن يرفض أي احتمال آخر وكأنهم يقولون "سنكرهها إن كانت قد مارست الجنس مع النساء".
موسى الشديدي لرصيف22: أم كلثوم لم تكن ضحية مُجتمع يفرض "الأنوثة القسرية" ويعتبر المرأة مُجرد جسد أي مساحة سياسية بامتياز، كالأرض، يمكن احتلالها وتحريرها.
هل تعد مثلهل تعد مثلية أم كلثوم المُحتملة انتصاراً لمثليي الجنس؟
الأقاويل والصور القليلة التي تجمع أم كلثوم بسيدات أُخريات بأوضاع حميمة جعلت موسى الشديدي يكتب تحقيقاً بعنوان "السِّتّ: أم كلثوم في القضية الجندرية" عام 2016 عبر مجلة "ماي كالي" الإلكترونية وهي المنصة الأردنية الوحيدة المعنيّة بشؤون المثليين جنسياً وتعمل رغم حجب موقعها الإلكتروني محلياً. تحقيقٌ عرّضه للكثير من الانتقادات لـ "تطاوله على الكبار"، ما دفعه ليتساءل: لماذا يكترثون مع من كانت تنام الست؟
يقول الشديدي لرصيف22 إن التحقيق ولّد حالة غريبة جعلت "شبح أم كلثوم يلاحقه" مُضيفاً أنه كان يستيقظ على رسائل وصور وتسجيلات نادرة عنها، ما دفعه بعد نحو ثلاث سنوات لإطلاق كتاب جمع فيه "البعض" مما تلقاه مُشيراً إلى أن هُناك "ما لا يمكن قوله عن أم كلثوم" التي يعتبر صوتها سياسياً كصوت المدافع وفي الوقت ذاته رومانسياً كفيلاً بجعل القلوب تنصهر عشقاً، مُضيفاً أنها لم تكن تغني بصوتها بل بصوت جمهورها، تُطلق الآه وتنتظر سماع التصفيق وكأن الجمهور آلة موسيقية بيدها "تعزفنا وتعزف لنا"، يقول الشديدي.
 
سألتهُ عن "أكبر دليل" حول "مثليتها الجنسية المُحتملة" من بين ما ذكره في كتابه عن تمرّدها وزواجها في سن الـ 57 من طبيب يصغرها 17 وتملّكها العصمة (أي كانت تمتلك حق الطلاق)، قال: الدليل هو كل ما قيل وما لم يقل، الجمهور هو الدليل وثورة الغضب على مقالي عنها هو الدليل. الدليل كلوحة فسيفساء لا يعني شيئاً إذا فقد أي جزء من الأجزاء التي تروي القصة ومع ذلك لا أعرف شخصياً إن كانت بالفعل قد مارست الجنس مع النساء.
 
قد يكون إثبات مثلية أم كلثوم  الجنسية "انتصاراً" لمثليي الجنس كونها أحد أكثر الشخصيات جماهيرية لكن الشديدي يُفضّل القول إن عدم معياريتها هي الانتصار الحقيقي على "المنظومة الأبوية الرأسمالية الاستعمارية"، مُضيفاً: أن تكون المرأة مُتمردة وتحظى بهذه الشعبية، فهي حالة فريدة جداً في التاريخ الإنساني وخاصة في هذا الجزء من العالم.
 
ولفت الشديدي لرصيف22 إلى أنه يتّفق مع الباحث والمفكر الفلسطيني الأمريكي إداورد سعيد على أن الجمهور كان يتهامس طوال الوقت حول ممارستها الجنس مع النساء لكنه "تجاهلها وأحب صوتها"، ويعتقد الشديدي أن الوضع سيبقى على ما هو عليه مُضيفاً: ربما هذه فائدة أن نكون "متخلفين" هو أن نسمع صوت قلبنا ومشاعرنا ونتجاهل ما لا يعجبنا.  
 
وأكّد الشديدي مراراً شبه استحالة التوصل إلى "جواب شافٍ" يجزم بمثلية أم كلثوم أو ينفيها مُشيراً إلى أن أم كلثوم لم تخضع لبند واحد من المعيارية الغيرية وهي "افتراض يقوم على وجوب تصنيف جميع البشر إلى جنسين رجالاً و نساء، ينجذبون جنسياً وعاطفياً إلى الجنس الآخر، سعياً للزواج والإنجاب". ويُنهي الشديدي حواره مع رصيف22 قائلاً: سنفترض أنها لم تكن مثلية إلا أنها بالتأكيد لم تكن مُغرمة بالرجال.ية أم كلثوم المُحتملة انتصاراً لمثليي الجنس؟