على وقع المُهل المتناقضة التي تتحدث عن الإنسحاب الأميركي من سوريا أجمعت تقارير ديبلوماسية وعسكرية على أنّ واشنطن عاودت تعزيز قواعدها العسكرية في شمال سوريا وشرقها، تزامناً مع تسريبات تحدثت عن بقاء قواتها في قاعدة «التنف» الى موعد غير محدَّد. ما طرح أسئلة عن الغاية من هذه التحرّكات ومراميها، وهل إنّ واشنطن بدّلت من استراتيجيّتها؟
 

في ظلّ التحركات الواسعة النطاق التي عكست اهتماماً إقليمياً ودولياً بشكل ومضمون إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإنسحاب من سوريا في 19 كانون الأول الماضي لم يكن متوقعاً، تجدَّد الحديث عن تعزيزات اميركية في عدد من المواقع في شمال البلاد، تزامناً مع حديث جدّي عن تراجع واشنطن عن إخلاء «قاعدة التنف» في الجنوب لضمان المراقبة المطلوبة للحراك الإيراني بين العراق وسوريا وصولاً الى لبنان.

وهو ما طرح الحاجة الى إعادة تقويم للتطورات والدوافع التي أدّت الى مثل هذه الخطوة، في وقتٍ لم ينسَ العالم بعد كيف تراجع ترامب عن تنفيذ قرار مماثل صدر قبل عام.

كانت كل التطوارات توحي أنّ قرارَ ترامب سينفَّذ هذه المرة أيّاً كانت الأثمان وردات الفعل في الإدارة الأميركية الرافضة والتي ترجمتها استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس إثر صدوره. فهو كان يرفض هذا القرار وقد فضّل تركَ موقعه المتقدّم للتعبير عن قناعته بعدما نجح في تأجيل القرار السابق.

فترامب عوّد الأميركيين وحكومات العالم أجمع على أنه لم ولن يتردّد في تنفيذ كل ما وعد به مواطنيه في حملته الإنتخابية التي قادته الى البيت الأبيض قبل عامين تقريباً، وهو ما جعل كثيرين ينتظرون التثبّت من تعزيز القوات الأميركية في المناطق التي عادت اليها، الى أن تأكّد ذلك من خلال اكثر من مصدر عسكري وديبلوماسي.

وقد توقفت تقارير عسكرية وديبلوماسية عند التوقيت الذي اعتمد في اعادة تعزيز هذه القواعد الأميركية واحداث أخرى قريبة منها. فأشارت أولاً الى انها عاودت نشر نحو الف جندي يتنقلون بالمدرعات وتواكبهم مرابض مدفعية وأسلحة متطورة بعد ايام على أنباءٍ تحدّثت عن سحب مجموعات صغيرة ما بين 150 و200 جندي من مناطق الشمال في اتجاه الأراضي العراقية.

وربطت هذه التقارير العملية بتوقيتها بالأيام، فقالت إنها جاءت بعد 54 يوماً على الإعلان عن الإنسحاب الأميركي من سوريا، وبعد 22 يوماً على آخر غارة إسرائيلية على مواقع ايرانية في سوريا وإطلاق اول صاروخ ايراني أرض - أرض من سوريا في اتجاه اسرائيل وتهديد قيادات عسكرية وديبلوماسية ايرانية بمثله في أيّ لحظة، مصحوباً بتحذير روسي لإسرائيل هو الأوّل من نوعه، دعاها الى وقف هذه الغارات فوراً التي حصلت قبل 23 يوماً على مؤتمر وارسو المقرَّر بعد يومين.

قد لا تفي هذه الأرقام لتبرير أو شرح الخطوة الأميركية لكنها تدلّ على نهج اميركي جديد عزّزته نصائح وجهتها جهات عدة الى ترامب، وابرزها جاء من اعلى هرم المخابرات الأميركية الى مسؤولي جهاز الأمن القومي، الى البنتاغون الذي شكّك الناطق باسمه قبل 3 ايام بوجود موعد محدَّد للإنسحاب الأميركي من سوريا قبل أن تفي بالغرض من وجودها وتقليص الوجود الإيراني فيها، وذلك على رغم ممّا نُقل عن ترامب من «أنّ نيسان هو الموعد النهائي لإنجاز هذه المهمة».

والى هذه المعطيات، كشفت تقارير أعدّتها مراجع التقت قيادات عسكرية وديبلوماسية اميركية سعت الى ترجمة الربط بين مسلسل الأحداث التي قادت الى إعادة تعزيز القواعد الأميركية بمزيد من المعدات والجنود الأميركيين، والتي أوحت بوجودِ توجّهٍ اميركي جديد بإمكان توجيه ضربات عسكرية اميركية مباشرة من دون الرهان على أيِّ قوة أخرى لتقليص الوجود العسكري الإيراني وحلفائه في سوريا.

وعلى هذه الخلفيات، لا تستبعد هذه التقارير أن تُوجّهَ الولايات المتحدة الأميركية «ضربة موجعة» في سوريا تؤتى ثمارُها سريعاً، بديلاً من تجميد ملحوظ للطلعات الإسرائيلية فوق سوريا منذ التحذير الروسي الشهر الماضي.

وهو سيناريو يطرح التزامن بين أيّ موعد مرتقب للإنسحاب الأميركي من سوريا ومعه القوات الإيرانية وحلفاءها من الميليشيات الحليفة لها، وفق برنامج تمّ التفاهمُ حوله مع روسيا. وهو سيناريو يقود حتماً الى إطلاق عملية دستورية وسياسية واسعة في البلاد، لا يُعرف من اليوم ما ستكون عليه مراحلها عندما تشكل بواقعها الجديد ترجمة لتفاهم كبير بين موسكو وواشنطن، تلتزم به القوى الإقليمية والمحلية وفق توزيعة جديدة للسلطة تدلّ على هوية سوريا الجديدة ونظامها.