التوتر الفرنسي الإيطالي الذي يعبر جبال الألب يأتي في لحظة سياسية حرجة أوروبيا ودوليا، لكن أسبابه الداخلية تطغى على اعتبارات بديهية تفرضها مصالح مشتركة هائلة وقواعد حسن الجوار.
 

“القارة العجوز” ليست بخير، وقبل إغلاق أزمة سرعان ما تبدأ أزمة أخرى في سياقات داخلية أو ثنائية  أو ضمن مؤسسات الاتحاد الأوروبي وكل ذلك عشية استحقاق انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو القادم وما سيظهره لناحية المسار المستقبلي إن لجهة إمكانية انطلاقة جديدة للمشروع الأوروبي أو لجهة انتكاسة مع تقدم المشككين والشعبويين والقوميين السلبيين.

شهد هذا الأسبوع أزمة دبلوماسية بين فرنسا وإيطاليا مع خطوة استدعاء السفير الفرنسي من روما، في تصعيد جديد لتوتر العلاقات مؤخرا بين البلدين، وخاصة بعد قيام نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو (زعيم حركة الخمس نجوم) بالاجتماع مع ممثلين عن السترات الصفراء داخل فرنسا ودون علم السلطات الفرنسية. وهذا الوضع لم تشهده العلاقات الثنائية منذ الحرب العالمية الثانية.

إنها حلقة جديدة في سياق الاضطراب الأوروبي مع مصاعب تنفيذ البريكست والصعود الشعبوي والانكشاف الاستراتيجي الذي تعمق مع تعليق العمل بمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى بين واشنطن وموسكو وعدم وجود قطب أوروبي دفاعي أو قطب سياسي فاعل في دومينو عالمي جديد يمكن أن يتشكل على حساب الوزن التاريخي لأوروبا.

يأتي هذا التوتر الفرنسي الإيطالي الذي يعبر جبال الألب في لحظة سياسية حرجة أوروبيا ودوليا، لكن أسبابه الداخلية تطغى على اعتبارات بديهية تفرضها مصالح مشتركة هائلة وقواعد حسن الجوار وخصوصا كون باريس وروما من العواصم المؤسسة للمغامرة الأوروبية التي توجها الاتحاد الأوروبي.

بالطبع بين “الديك الفرنسي” و”الآزوري الإيطالي” لم يمر التاريخ من دون حروب ومبارزات ومناكفات منذ أيام القيصر الروماني والإمبراطور نابليون وصولا إلى موسوليني وديغول. لكن عوامل القربى والتاريخ المشترك حول البحر المتوسط وداخل أوروبا لهما أيضا وزنهما. ويعود الجدل ليحتدم حتى عند الالتقاء حول شخصية مثل المبدع ليوناردو دا فينشي الذي ولد في إيطاليا وتوفي في فرنسا، علما أن لوحته الشهيرة “الجوكندا أو الموناليزا” جوهرة متحف اللوفر كأنها تغمز من قناة البلدين لعدم نسيان عصر النهضة والعودة بأوروبا إلى المراحل السوداء من تاريخها.

بدأ التوتر يتصاعد منذ وصول الفريق الحاكم في روما في يونيو 2018 وعماده حزب الرابطة (رابطة الشمال سابقا) الذي يقوده ماتيو سالفيني، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، وحركة الخمس نجوم (حركة مناهضة للنظام وغير تقليدية) التي يتزعمها نائب رئيس الوزراء لويجي دي مايو.

كانت مسألة الهجرة غير الشرعية، لناحية العبء الذي تتكبده إيطاليا بسبب موقعها الجغرافي، بمثابة الرافعة التي أوصلت الأكثرية الحاكمة المشككة في أوروبا والمتشددة وطنيا. وبالفعل من فتح النار في الاشتباك مع الحكم الجديد في روما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسبب رفض الحكومة الإيطالية استقبال باخرة أكواريس الحاملة لمهاجرين غير شرعيين وحينها هاجم ماكرون أيضا الانتماء السياسي القومي لسالفيني دون أن يسميه. وثار غضب روما إزاء “الغطرسة” الفرنسية وإعطاء الدروس فيما لا تقوم باريس بواجبها في استقبال المهاجرين واللاجئين كما يقول المسؤولون الإيطاليون.

بعد ذلك، شهدت العلاقات بين إيطاليا وفرنسا توترا متصاعدا في الأسابيع الأخيرة، بعد تبادل الدولتين حربا كلامية في عدد من القضايا، أبرزها الملف الليبي وتدفق المهاجرين، و”التدخل الإيطالي” في دعم حركة السترات الصفراء الاحتجاجية في فرنسا.

وفي صب للزيت على النار وصل الأمر بماتيو سالفيني إلى الإعراب عن أمله في تخلص الفرنسيين من “أسوأ رئيس عرفته فرنسا”. وعلى صعيد آخر، اتهم دي مايو باريس بترسيخ الفقر في أفريقيا والتسبب في تدفق المهاجرين بأعداد كبيرة إلى أوروبا.

وأكد ماتيو سالفيني، وهو نائب آخر لرئيس الوزراء الإيطالي، ما جاء على لسان زميله، قائلا “فرنسا تنتزع الثروات من أفريقيا بدلا من مساعدة الدول على تطوير اقتصادها”. وفي الملف الليبي، قال سالفيني “في ليبيا.. فرنسا لا ترغب في استقرار الوضع ربما بسبب تضارب مصالحها النفطية مع مصالح إيطاليا”.

تأخذ روما على باريس ترحيلها للمهاجرين القادمين من إيطاليا وإرجاعهم إليها، وهذا الخلل ليس ثنائيا فحسب، بل يتفاقم بسبب العجز الأوروبي عن بلورة إستراتيجية مشتركة حيال الهجرة واللجوء. ومن الملفات الأخرى المسممة للعلاقات مطالبة الحكومة الإيطالية، باريس بتسليم 14 إيطاليا مطلوبا بتهمة الإرهاب، فروا إلى فرنسا. وقد أقرت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه بـ”احتمال” وجود 14 إيطاليا، تلاحقهم روما بتهمة الإرهاب على الأراضي الفرنسية. لكنها أوضحت أنها لم تتلق بعد طلبات لتسليمهم. بينما تقول أوساط فرنسية مستقلة إن هؤلاء من عناصر اليسار المتطرف الإيطالي ويتمتعون باللجوء السياسي.

بيد أن ما لا يقال ربما هو أكثر من ذلك. وكشف بعضه رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي الذي اعتبر أن “ألمانيا وفرنسا تستهزئان ببلاده والاتحاد الأوروبي بتوقيعهما معاهدة للعمل على منح ألمانيا مقعدا دائما في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة”.

ونعلم جيدا أن روما تعترض على منح ألمانيا مقعد عضو دائم جديدا عن أوروبا وتطالب بعدم استبعادها. ولذا تعتبر الدوائر الإيطالية أن فرنسا وألمانيا “لا تفكران إلا في مصالحهما الوطنية”. ومن الملفات الأخرى الحساسة تطور العلاقة بين روسيا وإيطاليا وكذلك بين الحكومة الإيطالية والرئيس دونالد ترامب مقابل قلق الثنائي الألماني – الفرنسي من ذلك. إلا أن الموقف الإيطالي من فنزويلا الأقرب إلى الموقف الروسي يطرح إشكالية أخرى حول التضامن الأوروبي.

بالرغم من أهمية الاعتبارات الخارجية والأوروبية، إلا أن المزايدة في الداخل الإيطالي في الهجوم على “ماكرون المتكبر” تأتي بعد تراجع حركة دي لويجي أمام حزب سالفيني في استطلاعات الرأي عشية الانتخابات الأوروبية. وبما أن حزب الرابطة أقام تحالفا أوروبيا مع تجمع مارين لوبن وأمثاله، تحاول حركة الخمس نجوم تدعيم صلتها مع السترات الصفراء على أمل تجميع كل مناهضي النظام والبيروقراطية الأوروبية.

من جهته إيمانويل ماكرون الذي ينوي قيادة لوائح التقدميين للدفاع عن المشروع الأوروبي، أعطى تعليماته في خطوة غير معتادة بين بلدين في الاتحاد الأوروبي ليس فقط للاعتراض على تدخل إيطالي غير مبرر في الشأن الداخلي الفرنسي، بل للإضاءة على مخاطر تصرفات الفريق الحاكم في إيطاليا على مستقبل الاتحاد الأوروبي. إذًا إنها بداية المعركة الانتخابية الأوروبية.

لم يخترق التغيير جبال الألب كما بشر دي مايو الذي يريد بناء وضع أوروبي جديد مناهض لما جرى بعد الحرب العالمية الثانية، بل هو التصدع الذي يخترق العلاقات الفرنسية – الإيطالية والذي تتأثر به أوروبا التي لا يزال “تسونامي” بريكست يهزها وإن تواصل يمكن أن يزعزع قوائم الشعبوية في مايو القادم.

في الماضي،  قبل أكثر من ألفي عام بقليل، تجاوز يوليوس قيصر “نهر روبيكون” (كان جزءا من الحدود بين إيطاليا الرومانية ومقاطعة الغال الجنوبية التي صارت جزءا من فرنسا الحالية) الذي كان يسمى نهر الخوف. اليوم يتجاوز البعض في إيطاليا المحرمات والعوائق لكننا لسنا في عصر القيصر ولا في عصر الإمبراطور على جانبي الألب.