ثقافة الأكفان لا تعترف بسياسة النأي بالنفس لإبعاد العراق عن شبح الصراعات الدولية، فالأهم لديها الإبقاء على العراق منصة إطلاق متقدمة لمشروع ولاية الفقيه.
 

احتفى معرض بغداد الدولي للكتاب بدورته الحالية بالروائي والأكاديمي علاء مشذوب الذي اغتالته قبل أيام رصاصات لم تكن طائشة أو مجهولة.

 هذه الرصاصات هي رسالة بليغة من الميليشيات إلى الشعب مضمونها أن الحكم والتنفيذ لا يحتاجان إلى دولة، إنما إلى قرار من أي زعيم في أي فصيل مسلح يرى في إدانة نظام ولاية الفقيه ما يستحق إنزال عقوبة بالموت.

بهكذا عقلية تكون الدولة بالمطلق خاضعة لسلاح الميليشيات وفقهها؛ وهكذا أيضا تتصرف الدولة بتحاشي البحث في جذور الأزمة وإشكاليتها لتحفظ بعضا من ماء وجهها أو لتحميه، فمصدر السلطات هو السلاح العقائدي المدعوم بفتوى المرجعية المذهبية التي طرحت أثناء اللقاء مع المبعوثة الأممية الجديدة في العراق جينين هينيس ضرورة حصر السلاح بيد الدولة.

الحشد الشعبي، بميليشياته ومن هو خارجه، يستظل أولا بالفتوى إن لمقلدي المرجعية في النجف أو لمقلدي مرجعية ولاية الفقيه؛ أي أن السند المذهبي متحقق بداية بفتوى الجهاد الكفائي الذي أسس للحشد. هذا يعني قدرة المرجعية على إصدار فتوى لحل الميليشيات والحشد منها لانتفاء الحاجة بوجود قوات مسلحة نظامية ومدربة يفترض إنها لا تخضع لإملاءات طهران إنما لإرادة وطنية خالصة.

منظور الزيارات الأممية الأخيرة وانفتاحها على المرجعية المذهبية، يؤكد التوجه الأممي والدولي ومنها الأميركي في توصيل رؤية الدولة العاجزة عن التوصيل بسبب انتمائها العقائدي والسياسي، ولعجزها عن مواجهة متطلبات الدولة الحديثة التي تتعارض بالمطلق مع وجود أي ميليشيا أو سلاح خارج صلاحياتها أو وظيفتها كسلطة قانون لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتجمل بالصبر في معاملة مشروع يستهدف جوهر وجودها، وبذات الطريقة في تصفية الحساب مع الدكتور علاء مشذوب، لكن بالجملة وليس المفرد.

مصالح إيران في العراق تتقدم على مصالح العراقيين، والعقوبات على النظام الإيراني تمضي بالسياسيين من كل الجهات على شفرة السكين بما يوجب عليهم التحرك بحذر في التصريحات والمواقف، تحسبا لردود فعل الميليشيات أو المرشد الإيراني أو جنراله قاسم سليماني.

ليس بالإمكان خوض أي حوار وطني مع سلاح غير وطني تحمله أياد وعقول لا تحتفي إلا بولاية الفقيه، لذلك مقالة علاء مشذوب لا تقابلها مقالة أو رأي أو مناظرة ثقافية؛ لذا الحديث عن جدوى تقييد الميليشيات الإيرانية بواجبات سياسية داخل الدولة لا يرقى إلى مسؤولية دولة المواطنة في مصارحة شعبها بالمأزق التاريخي الذي وجدت نفسها فيه بإرادتها، بما يفسر اللجوء المتأرجح مرة باتجاه القوات الأميركية ومرة إلى المنظمات الأممية لتخفيف الضغط على بقايا مقومات الدولة التي صادرتها الميليشيات بعد زلزال الاحتلال.

أكثر من مليون عراقي، من بينهم علاء مشذوب، ضحية عقدة هزيمة الخميني في الحرب مع العراق، دون أن تشفي تلك الأرقام المأساوية غليل الميليشيات في الانتقام، تحديدا من هؤلاء الذين لم يتورطوا في المشروع الطائفي لأسباب ثقافية وحضارية وإنسانية أملت عليهم قول الحقيقة رغم فداحة الثمن.

بعد الاحتلال الأميركي انتشرت في العراق ثقافة الموت التي طالت بمنهجية مسبقة خيرة العقول العراقية وضباط الجيش الأكفاء بالتصفيات المستمرة، وظهرت لأول مرة في الشوارع فكرة ارتداء الأكفان في إشارة بالغة الدلالة على الانقياد الأعمى للزعماء الدينيين والمراجع المتعددة، لفرض الخوف والإرهاب وإظهار الولاء المطلق للعقيدة.

كان ذلك نقطة الشروع في صياغة دولة الفوضى والميليشيات التي ضربت الحياة العامة والعلاقات بأخلاق العصابات والسرقات والخطف والإتاوات والسيطرة الوهمية ومحاسبة الناس على نمط خصوصياتهم، والقيام بتصفيات تحتفظ بها ذاكرة العراقيين إلى أن تضخمت تحت رعاية الدولة باحتكار العنف الطائفي والتفنن في إذكاء الفتنة.

وهيّأ هذا الوضع للميليشيات فرصة تولي مسؤوليات الدولة من نقاط التفتيش إلى الاعتقال والتعذيب ومصادرة العقارات إلى القتل على الهوية، وصولا إلى استلام مهمات القوات النظامية والسلطة التشريعية ومناصب مهمة في السلطة التنفيذية منها وزارة الثقافة.

ثقافة الأكفان لا تعترف بالكتب ومعارضها ولا بعلاء مشذوب ولا بسياسة النأي بالنفس لإبعاد العراق عن شبح الصراعات الدولية، فالأهم لديها الإبقاء على العراق منصة إطلاق متقدمة لمشروع ولاية الفقيه وصادراته إلى المنطقة العربية وتقليل آثار العقوبات على النظام الإيراني.

مراجعة أرقام البطالة والفقر وإحصاءات المشردين وحالات الانتحار التي سجلت في عامين فقط وبثلاث محافظات، تكشف أن أكثر من 700 حالة انتهت بالموت مع تسجيل وقائع استثنائية في خروقات إنسانية تحيلنا إلى انحطاط في مبدأ الدول الراعية لمواطنيها في سلوكيات تقف عاجزة أمام تفشي ظاهرة الولاء الميليشياوي للنظام الإيراني. الولاء الذي أطبق على الحياة بتعليمات وإجراءات حكومية تنطوي على الكثير من التعسف لصالح دولة دينية على مقاسات تنظيم دولة الخميني التي مازالت ترى في العراق بعد 40 سنة، ورغم كل ما جرى في سنوات الاحتلال، ما يدفعها للانتقام من أهل العراق وعروبتهم.