انطلقت بسجالات بين أقطابها... وتنتظرها ورشة إصلاحية واستحقاقات
 

لم تجسد الحكومة اللبنانية الجديدة، الانطباعات التي سبقت تشكيلها بكونها حكومة منسجمة، وتمثل الجميع لتكريس الهدوء اللازم للمضي بتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة. ذلك أنه منذ تشكيلها، بدأت المناكفات السياسية، وبرز خلاف بين رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، تجسد في سجالات إعلامية، وشغّل مروحة اتصالات واسعة مع الحلفاء الذين يرفضون عزله، ويمكن أن يلتقوا معه في المواجهة المتوقعة في مجلس الوزراء بمواجهة الثنائي «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني).

وكرّست الحكومة الجديدة، اصطفافات سياسية مغايرة، ينظر إليها على أنها غير متكافئة، يتمثل الفريق الأول فيها بـ«التيار الوطني الحر» (الذي أسسه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ويترأسه راهناً صهره وزير الخارجية جبران باسيل) وحليفيه المتباعدين «تيار المستقبل» و«حزب الله». وفي المقابل يتمثل الفريق الثاني بـ«حركة أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«تيار المرَدة» وحزب «القوات اللبنانية» التي تلتقي مع الأطراف الثلاثة في ملفات، ومع بعض الأطراف في ملفات أخرى. ولعل غياب التكافؤ، يتمثل في أن الفريق الأول يجمع 20 وزيراً في الحكومة من أصل ثلاثين، بينما يلتقي الآخرون على ملفات، أبرزها مواجهة التلزيمات والمقاربات المتصلة بملف الكهرباء.

تشكيل الحكومة، سجل مفارقات كثيرة، أبرزها غياب «الصقور» عنها، وصعود الوزراء الموالين لشخصيات قيادية في البلاد. وهو ما دفع البعض لإطلاق وصف «المعاونين السياسيين لأركان الأحزاب في الحكومة»، مع أن هذا الوصف لا يحمل الدقة، بالنظر إلى أن السِيَر الذاتية لقسم كبير من الوزراء تزخر بتجربة إدارية وسياسية بارزة، فضلاً عن أن الآليات الداخلية (السيستم) في بعض التيارات، يوصل وزراء يتمتعون بمهارات وكفاءات إدارية وتقنية بما يتخطى الحضور السياسيّ.

منذ بدء النقاش حول تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، وضعت معايير واضحة، تراعي التمثيل في مجلس النواب استناداً إلى نتائج الانتخابات الأخيرة. ولقد حددت تلك المعايير حجم التمثيل في الحكومة الذي سمح بإدخال فئات لم تكن في السابق ممثلة، مثل «سنة اللقاء التشاوري» المعروفين باسم «سنة 8 آذار»، في خين تقلّصت حصص مثل حصة «تيار المستقبل».

 

الشيعة... كلاعب مؤثر

في الواقع، أنتجت تلك المعايير ثابتتين: أولاهما مشاركة الشيعة – أو بالأصح «الشيعية السياسية» – في السلطة التنفيذية، عبر الإصرار على حقيبة المال، وهي حقيبة أساسية في التوقيع على معظم القرارات الوزارية إلى جانب الوزير المختص ورئيسي الجمهورية والحكومة. بل أكثر منذ ذلك، لم يخفِ متابعون لعمليات تشكيل الحكومة، وإثر إصرار «حزب الله» على تمثيل «اللقاء التشاوري السنّي» - المرتبط بتوجهاته السياسية - بالوزير حسن مراد، أن الشيعة فرضوا أنفسهم لاعباً في عمليات التشكيل، وهذا دور جديد لم يكن في السابق عرفاً، وليس نصاً دستورياً بالنظر إلى النص يوكل عمليات التشكيل إلى رئيسي الحكومة والجمهورية، لكنه واقع تم تكريسه بمفاعيل ما يسميه اللبنانيون «الديمقراطية التوافقية».

يقول المحامي والأستاذ في القانوني الدولي الدكتور أنطوان صفير بأنه «من الناحية الدستورية، لا تزال مهمة تشكيل الحكومات من صلاحيات رئيس الجمهورية والحكومة حصراً، لكن الواقع ليس كذلك. إذ طرأ لاعبون مؤثرون على العملية يتخطون النص الدستوري، من غير أن يكون لهم أي توقيع قانوني». ويوضح صفير في حديث لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «ما جرى من خلال المناقشات ومراعاة الأطراف السياسية والطوائف، ليس عرفاً جديداً، بل هو امتداد للديمقراطية التوافقية المعمول بها في لبنان، وباتت ديمقراطية تشابكية بين الأحزاب والقوى السياسية والطوائف»، مشدداً على أن التوافق «بات محرك تشكيل الحكومات، ولهذا السبب يتأخر تشكيل الحكومات في العقد الأخير».

 

نظام مجلسي هجين

المفارقة الثانية في مناقشات تشكيل الحكومة، تجسدت في تغيير في القواعد السياسية المعمول بها في لبنان منذ وقت طويل لجهة وضع معايير للتمثيل في الحكومة، يوازي حجم التمثيل في البرلمان وفق نتائج الانتخابات الأخيرة، وتوزعت الحصص على شكل وزير يمثل أربعة نواب في كل كتلة.

هذا الخط رسمه رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل. وينظر إليه على أنه تكريس لنظام توافقي جديد، يشابه إلى حد بعيد ما هو معمول به في بلدان أوروبية، حتى بدأ التهامس ما إذا كان ذلك يتقاطع في أحد وجوهه مع النظام المجلسي المعمول به في إيطاليا، لجهة تمثيل البرلمان في الحكومة، أو النظام القائم في سويسرا لجهة تمثيل المكوّنات الفئوية المتنوعة.

لكن الدكتور صفير، لا يوافق على هذا الوصف، بقدر ما يعتبره شكلاً من أشكال النظام المجلسي الهجين، وفي نسخة هجينة عما هو معمول به في إيطاليا. ويشرح: «حصلت الانتخابات على أساس النظام النسبي، هو أفضل من السابق لكنه لا يعني أنه النظام الصحيح بشأن عدالة التمثيل. أما الحكومة التي اعتمدت على نتائج الانتخابات، فلم تمثل فيها شخصيات من خارج القوى السياسية، مثل وزراء تكنوقراط متخصّصين لا يمثلون الكتل السياسية. لذلك، ظهرت الحكومة تابعة بأكملها للقوى السياسية، بشكل ربما لم يشهده لبنان في السابق بالشكل القائم حالياً». ويضيف الدكتور صفير «إنه لتكريس لعرف جديد أن لا يكون هناك وزير إلا بسبب انتمائه للكتلة السياسية التي ينتمي إليها، وهذا أمر غير منطقي لأنه يؤكد أن الحكم بات في نظام مجلس هجين، وباتت خبرة الأعضاء المستقلين من خارج الاصطفافات السياسية شبه معدومة».

 

«ثنائية» الحريري - باسيل

كرّست الحكومة الجديدة الوليدة ثنائية «الحريري – باسيل» التي فتحت باباً للانقسامات مع حلفاء الأمس، والسجال السياسي خصوصاً بين رئيس الحكومة والنائب السابق وليد جنبلاط، وأيضا فتحت باباً للاجتهاد الإعلامي بأن هذه الثنائية باتت قابضة على السلطة، بالنظر إلى الانسجام والتوافق بين الطرفين اللذين يمتلكان أكثر من نصف أعضاء الحكومة التي تضم 30 وزيراً، إلى جانب حلفاء لهم. غير أن المراقبين، يحجمون عن منح التفاهم بين الطرفين هذا الوصف، بحجة أن النظام القائم في السلطة تشاركي، وغالباً ما تؤخذ القرارات بالتوافق كي لا تصطدم بمواقف صلبة من أطراف أخرى تؤدي إلى العرقلة، في وقت يُراهن على هذه الحكومة بأن تكون منتجة إلى أبعد تقدير.

ويبدو الباحث والكاتب السياسي جورج علَم ميالاً إلى القول بأن التفاهم الرئاسي بين رئيسي الجمهورية العماد ميشال عون والحكومة سعد الحريري العائد إلى العام 2016. وكان الوزير باسيل يشكل العمود الفقري فيه «هو التفاهم المنتصر رغم كل التنازلات». ثم يشير خلال حديث أدلى به لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «بعد السجال بين الحريري وجنبلاط، وهجوم رئيس الحكومة بتأكيده أنه ماضٍ بالعمل بمعزل عن مواقف الآخرين، تبين أن هناك أمراً واقعاً جديداً، واستقواء بالتفاهم الرئاسي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الطرفين لهما غلبة عددية في مجلس الوزراء، وصارت الغالبية ضمن التحالف الرئاسي».

ويتابع علم «رغم ذلك، لا يمكن الاعتماد على الأعداد الرقمية في الحكومة، ولا يمكن تمرير بعض الملفات بالعدد، بالنظر إلى أن هناك قوى أساسية مثل الرئيس نبيه برّي والمرَدة والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية، وهي قوى لا يمكن تجاوزها». ويؤكد أن التجربة السياسية في لبنان القائمة على التوافق «تثبت أن الكيدية السياسية لا تنتج، وكل القرارات لا يمكن أن تمرّ إلا بالتوافق».

 

ضوابط التحالفات

مع ذلك، يذهب البعض إلى تأكيد وجود ضوابط عبر حلفاء مشتركين، لا يتنازل عنها طرفا التسوية الرئاسية إذا اتفقا، فـ«التيار الوطني الحر» لا يمكن أن يتخطى حليفه «حزب الله» أو يتجاوزه، وكذلك لا يتخطّى الحزب حليفه الرئيس برّي ويتجاوزه، ولا يسمح بكسر «تيار المردة». ومن جانب آخر، لا يكسر الحريري حلفاءه المتباعدين عن «التيار الوطني الحر» مثل «الحزب التقدمي الاشتراكي» أو «القوات اللبنانية» - التي ترتبط بتفاهم مع «الوطني الحر» ومع «المرَدة» في الوقت نفسه. وبالتالي فإن هذا التشابك في التحالفات، تعتبره مصادر سياسية بمثابة «ضابط إيقاع» مانع للتأزم والانفجار، ولا أحد يسمح لأي طرف بتخطي الحدود الحمراء في ظل الاستحقاقات التي ينبغي على الحكومة تنفيذها.

في الوقت نفسه، ترفض مصادر سياسية ما يُقال بأن «التيار الوطني الحر» دخل في حلف مالي - اقتصادي مع الحريري، وحلف سياسي - استراتيجي مع «حزب الله» يؤهله ليكون الطرف الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي اللبناني، مستندة إلى أن النظام في لبنان تشاركي، ولا مناص من التوافق.

 

ملفات وتحديات

لقد أطلق البيان الوزاري على الحكومة اسم «حكومة إلى العمل». وإذ تجاوزت الحكومة الملفات الإشكالية مثل ملف النازحين السوريين وملف استعادة العلاقات مع سوريا والبند المتعلق بـ«المقاومة»، بدأ اهتمام الحكومة منصباً على القضايا الاقتصادية ومعالجة اهتمامات المواطنين والقضايا المعيشية والإصلاحات مثل تخفيض النفقات وزيادة الواردات من دون زيادة الضرائب وكان الحرص على زيادة حجم الاقتصاد وتخفيف العجز.

وهنا يرى الكاتب جورج علم أن الحكومة تواجه تحديين: التحدي الأول الضغط الشعبي عليها لتنفيذ ملفات ضرورية للناس، وإلا سيكون الشارع لها بالمرصاد. أما التحدي الثاني يتمثل في كون الحكومة «لن تتصرف بحرية بمقاربة الملفات لأن أي مشروع سينفذ بناء على مقررات مؤتمر سيدر... وهو لن يقدم أموالاً للحكومة، بل سيقدم تمويل مشاريع بعد تحقيق شرطين، هما تقديم محفظة من الإصلاحات الإدارية والمالية وفق ما يطله البنك الدولي وصندوق النقد والمؤسسات الائتمانية، وتقديم مشاريع مدروسة يقدمها خبراء سيدر ويقررون التمويل ويشرفون على التنفيذ»، لافتاً إلى أنه «إذا لم تفعل ذلك، فهي لن تكون قادرة على إنجاز الملفات».

ويرى علم أن الخطة الاقتصادية التي وضعتها شركة ماكينزي، محكومة بالتوجهات المالية لصندوق النقد الدولي تجاه لبنان وتقليم أظافر الحكومة في الداخل لجهة الفساد والأنفاق والرواتب، وهو خط أحمر ستكون له تداعيات كبيرة إذا كان هناك من توجه لمنع التوظيف أو تقليص رواتب الموظفين. ويستطرد «من المؤكد أن الحكومة لن تعيش في ترف سياسي، والسبب أن خط الإنجازات محدد، ويجب أن يكون تحت السقف الدولي المراقب»، مشدداً غلى أن الاستقرار النقدي «هو خط أحمر دولي».

 

تباين إزاء الملفات الاستراتيجية يسبق انطلاقة الحكومة

- منذ إعلان الحكومة، أعلن النائب السابق وليد جنبلاط المواجهة قائلاً: «الطوق السياسي سيزداد وسنواجهه بكل هدوء». وذهب عضو حزبه، وزير الصناعة وائل أبو فاعور إلى حد القول: «زرعوا الخناجر، الأقربون قبل الأبعدين في هذه الحكومة، وسنكسرها نصلاً تلو نصل لأن قدرنا الانتصار». وبدأ السجال مع رئيس الحكومة سعد الحريري الذي قال بأن «الدولة ليست ملكاً لنا حتماً، لكنها ليست مشاعاً مباحاً لأي زعيم أو حزب. مشروعنا واضح هدفه إنقاذ الدولة من الضياع وإحالة حراس الهدر على التقاعد».

وفي سجال آخر، عكست مواقف وزير الخارجية جبران باسيل حول الدعوة لتفعيل العلاقات مع سوريا، تبايناً مع وزراء آخرين في «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» قبل إقرار الحكومة لبيانها الوزاري. وقالت وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية مي شدياق «لا يُمكننا القبول بأن يعبّر وزير الخارجية جبران باسيل على المنابر الدولية عن موقف خارجي ليس هناك أي توافق عليه، فليس من شأننا أن نطالب بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، فلنترك هذا القرار للجامعة إذ لا اتفاق حتى الآن بشأن الدولة السورية فيما يتعلق بشكلها».

 

حكومة معاونين سياسيين؟

- بدا لافتاً من تسميات الأحزاب للوزراء في الحكومة اللبنانية الجديدة، أن الحكومة لا تضم عددا كبيراً من الشخصيات التي تصنف في «خانة الصقور». وباستثناء وزير الدفاع إلياس بو صعب، والمال علي حسن خليل، والوزير جمال الجرّاح الذي حصل على حقيبة الإعلام من حصة «المستقبل»، ذهب الرئيس الحريري إلى تسمية وزراء بمعظمهم تكنوقراط من المقرّبين منه. كذلك فعل «التيار الوطني الحر»، وهو ما دفع مصدر مواكب للتأكيد لـ«الشرق الأوسط» أن الشخصيات الممثلة بمعظمها تتألف من «المعاونين السياسيين وليس الصقور» وهذا في إشارة إلى «تغييب لبعض القيادات التي اعتادت القوى السياسية على تمثيلها في داخل الحكومة وخصوصاً لدى تيار المستقبل».

ودخل إلى حكومة الحريري الثالثة 17 وجهاً جديداً، في حين بقي 9 وزراء من الحكومة السابقة، وأعيد توزير 4 وزراء من حكومات سابقة، هم: إلياس بو صعب، وريّا الحسن، وأكرم شهيب، ووائل أبو فاعور.