أمّا وقد أصبح واضحاً أن التشكيلة الحكومية، كانت نتيجة غطاء فرنسي روسي، يدخل لبنان مرحلة جديدة، بحاجة إلى المزيد من المراقبة والمتابعة، لاستشراف الموازين الإقليمية والدولية، التي سيكون لبنان متأثراً بتقلباتها واضطراباتها. الإشارة التي تلقاها الرئيس سعد الحريري للذهاب إلى باريس، حيث لاقاه إليها الوزير جبران باسيل، كانت عبارة عن تسليم كلمة السرّ: حان وقت ولادة الحكومة. كان الفرنسيون قد توصلوا إلى ما يشبه الاتفاق مع الإيرانيين، حول ضرورة إنجاز التشكيلة الحكومية. حقق الإيرانيون تقدّماً في مسألتين. الأولى، بنود وجدول أعمال قمّة وارسو. والثانية، اتفاق التجارة بينهم وبين الأوروبيين، يؤمن الالتفاف على العقوبات الأميركية.

فرنسا أولاً

الفرنسيون بحاجة إلى العودة الفاعلة في الشرق الأوسط، من بوابة لبنان. وقد تزامنت مساعيهم من أجل إنضاج الحل الحكومي، مع التمايز في موقفهم من الانسحاب الأميركي من سوريا. إذ أكدت باريس أنها ستستمر في عملياتها العسكرية هناك. وهذا يعني أن باريس مصرّة على الاضطلاع بدور في المنطقة، سواء بالبقاء في سوريا، أو بتعزيز وضعها في لبنان. وهي راكمت جملة مكتسبات في سبيل تحقيق غايتها اللبنانية، من مساعيها الدبلوماسية الحاسمة إبان استقالة الحريري من الرياض، إلى تنظيم مؤتمر سيدر، وصولاً إلى مبادرات عديدة لفكّ أسر الحكومة، والتي نجحت أخيراً، فكانت إشارة التشكيل قد أُطلقت من العاصمة الفرنسية.

وبتبسيط للمشهد، فكما كان هناك أطراف لبنانية غير مطّلعة على تفاصيل ما حيك في باريس، فإن تمرير الحكومة كان على غفلة من بعض القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، خصوصاً الأميركيين والسعوديين. وحسبما أصبح مؤكداً، فإن الموقف الأميركي والسعودي ليس متحمساً للحكومة، ولكيفية تأليفها. إذ أن كل شروط حزب الله قد تحققت. وثمة توصيف أميركي أطلق في بعض الكواليس، بأن الحكومة ستكون "حكومة إعادة العلاقات مع النظام السوري"، استناداً إلى غطاء روسي إيراني، بما يتعاكس مع التوجهات الدولية.

تحذير أميركي

لهذا السبب، يستعدّ الأميركيون، حسب ما تكشف معلومات متابعة، إلى تسليم رسائل تحذيرية للبنان، من مغبّة الاندفاع إلى تطبيع العلاقات مع النظام، أو إعلان الطموحات والمطامع بشأن المشاركة في إعادة إعمار سوريا، والدخول إليها من بوابة اللاجئين السوريين. في موازاة الموقف الأميركي، ثمة رسالة جديدة أيضاً، سينقلها أمين عام جامعة الدول العربية، الذي يزور لبنان يوم الأحد، لتسليمه دعوى للمشاركة في القمة الأورومتوسطية. وحسب ما تكشف مصادر متابعة، فإن أبو الغيط سيكرر موقف الجامعة العربية، بأن الوقت لإعادة النظام السوري إلى الجامعة لم يحن بعد. وهناك شروط متعددة مفروضة على النظام، عليه تقديمها قبل اتخاذ هذه الخطوة. رسالة أبو الغيط، تحمل في طياتها العديد من المواقف العربية، ولا سيما الخليجية، التي أوقفت عملية التطبيع وفتح السفارات في دمشق، بناء على ضغوط أميركية، للتأكيد على أن المعركة لم تنته. وقد أرفق ذلك بمواقف تصعيدية، تبدأ بإقرار قانون قيصر الذي يحاسب النظام السوري، ومن يتعامل معه، ومن يتعامل مع المتعاملين معه. بالإضافة إلى البيان الذي وقعّته سبعة دول، بينها أميركا، مصر، السعودية والأردن، والتي تفرض المزيد من الشروط على النظام السوري. وتوضح أن المسار التصعيدي مستمرّ.

وتؤكد المعلومات، أن كل الكلام الإيجابي عن الدعم العربي، ولا سيما الخليجي، للبنان أصبح حتمياً وسيكون سريعاً.. هو كلام غير دقيق حتّى الآن، وهو مرهون بتطورات جذرية قد تحدث على الساحة الإقليمية. هذا الكلام يتلاقى مع الرسائل الأميركية التي أبدت انزعاجاً إلى حدّ بعيد من تلزيم مصفاة طرابلس لموسكو قبل أيام قليلة من ولادة الحكومة، والذي تعتبره واشنطن ذهاباً لبنانياً بعيداً في العلاقة مع روسيا. بالإضافة، إلى رفض أميركي وأوروبي مطلق للخطة الروسية لإعادة اللاجئين. وهذا يعني أن الاختلاف سيكون مفتوحاً.

ليس تفصيلاً، أن تتزامن ولادة الحكومة مع هذه الخطوات اللبنانية الروسية المشتركة، ولا يمكن فصلها عن زيارة رئيس الوزراء الإيطالي، خصوصاً أن شركة نفطية إيطالية تشترك في عمليات التنقيب عن النفط اللبناني. هذه الاندفاعة الأوروبية تجاه لبنان بموازاة التقدّم الروسي، يخلق حفيظة أميركية كبيرة، لا بد من انتظار ردّ الفعل عليها، لا سيما أن بعض الديبلوماسيين الأميركيين يعبّرون عن سخطهم للوضع القائم الآن في لبنان. لكن حتّى الآن، لا أحد يمتلك معطيات جدّية، إذا ما كان الأميركيون سيردّون على ذلك، أم أن كلام الحريري سيتحقق، بأن الأميركيين لن يقدموا على أي خطوة. وهم فقط يكتفون بالكلام والتحذير، من دون اتخاذ أي إجراءات.

استثمار تركي 

وإذا ما كان الدخول الروسي إلى لبنان أكثر ما يزعج الأميركيين، فإن البروز التركي اللافت على الساحة اللبنانية، سيزعج بلا شك عدداً من دول الخليج، وبالأخص السعودية والإمارات. إذ أن البعض يستخلص تجربة السنوات الأخيرة، ويعتبر أن الحريري بات في مقلب سياسي جديد. وهو يستفيد من مظلّة إقليمية ودولية، مرتكزة على تقاطع المصالح بين الأوروبيين والروس والإيرانيين وبعض الدول العربية. وليس تفصيلاً أن يتزامن تلزيم مصفاة طرابلس مع توقيع اتفاق استثمارات تركية في مرفأ طرابلس، ووجود مشاريع تركية تجارية واقتصادية كبيرة، تصل إلى حدّ ربط مرفأ طرابلس بمرفأ ميرسين، لتأتي فيما بعد زيارة الوفد الوزاري إلى تركيا، أيضاً، للبحث في مشاريع تجارية واقتصادية مشتركة.

غياب عربي

بلا شك أن الدخول التركي المتوافق مع روسيا في سوريا، سيجد قواسم مشتركة في لبنان أيضاً. وهذا بدأ يظهر، مقابل غياب عربي واضح، وضياع في الموقف الأميركي. ليبدو لبنان وكأنه أصبح خالياً من العرب أو متروكاً من قبلهم، وينتظر الردّ الأميركي. فإذا ما كان هناك ردّ أميركي انتقامي أو إجراءات عقابية، فإن واشنطن ستسهم في وضع لبنان أكثر في الحضن الروسي الإيراني. وأميركا حريصة جداً على الجيش والمصارف. وهذه ستكون أوراق القوة الأميركية بحثاً عن إعادة التوازن، على قاعدة تفاوضية جديدة: الاستقرار المالي والاقتصادي، واستمرار المساعدات العسكرية، مقابل تحقيق شروط معيّنة، كأمن إسرائيل وترسيم الحدود.