تخطى النضال البيئي في لبنان، أقلّه منذ منتصف التسعينيات، مرحلة سابقة كان التعاطي فيها مع مشاكل التلوّث وتدمير الجبال والغابات، يتم عبر الدعوة الى حبّ الطبيعة والحفاظ عليها، من منطلق أخلاقي. يكتفي هذا المنطق بحثّ المواطنين، عبر المناشدات والتوسلات والندوات والعرائض، على المسؤولية الشخصية والجماعية عن استدامة موئل طبيعي من هنا أو رفض مشروع ملوِّث من هناك.

إلا أن هذا النضال أصبح منذ بدء التحضير لقانون حماية البيئة الذي صدر عام 2002، عملاً سياسيًا بامتياز، له علاقة بالتشريع وتطبيق القوانين ومراقبة تنفيذها. وكان انضمام بند حماية البيئة إلى العقد الاجتماعي اللبناني، يفترض أن يوقف الاعتداءات على "المحيط الطبيعي، أي الفيزيائي والكيميائي والبيولوجي والاجتماعي الذي تعيش فيه الكائنات الحية"، لكن ذلك لم يحصل، وتواصلت تلك الاعتداءات كمًّا ونوعاً حتى أصبح من شبه المستحيل العثورعلى منطقة لبنانية لا يتعرّض هواؤها وتربتها ومياهها إلى انتهاكات سافرة وإجرامية.

أحد أهم أسباب استمرار هذه النزعة التدميرية هو اكتفاء السلطات الرسمية بالتشريع، وإغفالها التام لتطبيق القوانين ومراقبة تنفيذها. إذ سرعان ما تصطدم هذه القوانين بواقع الدولة الفاشلة التي تتميز، كما يشرح الأب صلاح أبو جودة اليسوعي، "بعدم قدرتها على الاضطلاع بوظائفها الأساسيّة في حقول النظام العام والأمن والعدالة والموارد"، و "بتعميم الفساد على أنواعه".

تترجم هذه المعادلة على الصعيد البيئي، بسلطات تقرّ القوانين في أروقة مجلس النواب استجابة لضغط دولي أو مطلب محلي نخبوي، ومن ثم التصرف على أنها لم توجد في الأساس. مثلاً، الوزراء أقروا مرسوم تنظيم المقالع والكسارات، بعد أن أشبعوه درساً، إلا أنهم أنفسهم، كزعماء محليين، من يوزع الأذونات غير القانونية للكسارات والمرامل كمغانم شخصية وحزبية وطائفية على أنفسهم ومحاسيبهم ومفاتيحهم الانتخابيّة.

على سبيل المثال لا الحصر، تصرّف وزير البيئة السابق طارق الخطيب، وهو محامٍ، كأن مرسوم أصول تقويم الأثر البيئي غير موجود. كان سلف الخطيب، أي الوزير محمد المشنوق، قد أصدر عام 2015، من ضمن صلاحياته القانونية المنصوص عليها في هذا المرسوم، موقفه من تقرير تقويم الأثر البيئي العائد الى سد جنّة، القاضي بعدم "الاستمرار باستكمال أعمال إنشاء مشروع السد في ضوء الأخطار البيئية التي برزت". لكن المحصّلة كانت، أن تجاهل صاحب المشروع، أي وزارة الطاقة والمياه برئاسة الوزير آرتور نظريان، ولاحقاً الوزير سيزار أبي خليل، هذا الرأي العلمي والقانوني، وجاراهما في ذلك الوزير الخطيب، كأن لا قوانين ولا مراسيم تنظيمية ولا من يحزنون! مع أن هذا التجاهل يعرّض صاحبه لدفع غرامة وعقوبة سجن!

هذا التجاهل ينسحب على المخفر ورئيس البلدية والقاضي، ما يجعل من الصعب على مواطنين، جوبهوا بتحدٍّ بيئي مفاجئ، أن يكونوا مهيئين للمواجهة قانونيًّا. إذ إنه بكل بساطة لم يتحدث أحد أمامهم، في أحزابهم وفي جمعياتهم أو مدارسهم أو جامعاتهم ولا في الإعلام، عن الحق بمقاضاة المرتكب بيئيًّا كمجرم!

وما يزيد الطين بلة، هو تجاهل جزء كبير من المجتمع المدني للواقع التشريعي الذي أصبح بحوزتهم، والذي يمكن أن يثمر نتائج جيدة إذا أرادوا استعماله كسلاح فعّال في معركة مكافحة الجرائم البيئيّة، وذلك يعود إلى انتفاء الرغبة بمواجهة طبقة سياسية فاسدة، هي وزبائنها.

لكن، وسط كل ذلك، ثمة بداية لاستقامة الأمور. إذ بدأنا نلحظ منذ فترة، تغيّرًا يسيرًا، وأصبحنا نجد أفرادًا أو مجموعات في المناطق المنكوبة بيئيًّا كالشويفات وعين دارة وشكا وبيروت، يأخذون على عاتقهم الشق المتعلق بتطبيق القانون ويسارعون الى تقديم إخبارات أو رفع دعاوى ومتابعتها، على أمل وقف التدمير البيئي ومعاقبة المرتكبين.

يجاريهم في هذا المسار بعض القضاء، الذي من دونه لا يمكن تحقيق أي تقدم على صعيد مكافحة الفساد. إن الهمّ البيئي أصبح جزءًا لا يتجزّأ من خطاب وعمل عدد محدود من الأحزاب والشخصيات التي تصنّف حاليًّا في خانة المعارضة.

يبقى هذا التطور غير كاف، لأن ثمة إصرارًا من الجزء الأكبر من السلطة السياسية على ممارسة نهج يقوم على توزيع مشاريع المنفعة العامة كغنائم من دون أدنى اعتبار لجدواها الاقتصاديّة وأثرها البيئي، واكتفائها بالتكاذب المتبادل بينها وبين مموليها الخارجيين، الذين يعتقدون من جهتهم، أن مجرد إقرار قانون كفيل بأن تصبح الإدارة في لبنان رشيدة والحوكمة مثالية.

إن هذا الإصرار المعزّز سلطويًّا وماليًّا، سيعرّض الديناميكية الجديدة للناشطين والمعارضين إلى الاضمحلال السريع. ستصبح مهمة هؤلاء أصعب، إن لم نقل مستحيلة، متى بدأت أموال "سيدر" بالتدفق من دون وجود معارضة سياسية واسعة. من هنا، لا بد من التصدي للنهج الاقتصادي-البيئي وتقديم البدائل.

باختصار، آن الأوان لأن يصبح "الناشطون" البيئيون، سياسيين بكل ما للكلمة من معنى. لديهم خطاب وطني شامل، يفتشون عن حلفاء، لا يخافون المخاصمة، ويسعون إلى السلطة لوضع القضية البيئية في إطارها الصحيح: بقاء لبنان دستوريًّا و"فيزيائيًّا"، أو زواله!.

 

روجيه حداد