يعتقد سعد الحريري أن بوسعه إعلان الوفاة السياسية لمن يشاء ، وإحياء من يشاء والإتيان به إلى جنة السلطة ، لكن الوقائع أثبتت أن هذه النظرية خاطئة ، وأن الذين أزاحهم الحريري من الحياة السياسية ، كانوا هم أنفسهم قابلين للشطب.
 
ما بين إستحقاق الإنتخابات النيابية المنصرمة وتشكيل "حكومة العهد الأولى" ، يكون الرئيس سعد الحريري قد أتمّ عملية التغيير في صفوف تيار المستقبل ، مقصياً من النيابة ومن الوزارة وجوهاً ذات أوزانٍ وقدرات ، ومضيفاً وجوهاً مستجدة ، معظمها هبط من مجاهل السياسة ضمن المواصفات التي حدّدها الحريري لفريقه الجديد ، بعد إتخاذه القرار الإستراتيجي بإنهاء "حالات التمرّد" أو التمايز في التيار الأزرق وفرض سيطرته وسطوته الكاملة على نوابه ووزرائه ومسؤوليه التنظيميين.
 
خرجتْ من النيابة قاماتٌ كبرى كان لها الأثر في تثبيت حضور تيار المستقبل منذ رافقت الرئيس الشهيد رفيق الحريري وواصلت مسيرتها إلى جانب الرئيس سعد الحريري ، نتيجة تورّط الأخير في الموافقة على قانون إنتخابات كان معروفاً سلفاً أنها ستفسر عن إقصاء شخصياتٍ شكّلت عقبة كأداء في وجه "حزب الله" وبدا وكأن القانون الإنتخابي تمّ تفصيله لإستبعادها ، فضلاً عن تمكين الحزب من إختراق الساحات المناطقية والمذهبية المقابلة له والحصول على حصة من مقاعد الطوائف والمذاهب الأخرى.
كان المستهدف الأول من قانون النسبية الملغوم ، الرئيس فؤاد السنيورة ، الذي حالت النسبية دون ترشيحه إلى جانب النائب بهية الحريري ، فإمتنع عن الترشّح ليغيب عن كتلة المستقبل وليفوز أسامة سعد.
ويذهب الكثيرون إلى أن مسارعة الحريري إلى تبنـّي قانون النسبية كان من أهم مغرياتها أنها تشكل مدخلاً لإحراج السنيورة ثم إخراجه لأنه ضاق ذرعاً بحجم السنيورة ووزنه داخل الكتلة وخارجها.
 
خرج من المشهد طوعاً رئيس مجلس النواب السابق فريد مكاري بعد أن أطلق مقولته الشهيرة أنه "لن يبقى من السنة مع سعد الحريري إلا هو وسمير جعجع"...
وإنسحب النائب أحمد فتفت بعد تضامنه مع الرئيس السنيورة في رفض إنتخاب الرئيس ميشال عون وإبقائه على التواصل مع الوزير أشرف ريفي الذي كان الخارج الأول في هذه السلسلة بعد مقولة الحريري الشهيرة "أشرف ريفي لا يمثلني" على خلفية الموقف من طلب إحالة قضية متفجرات المجرم ميشال سماحة إلى المجلس العدلي وإصرار ريفي على هذا الطلب وتوجّه الحريري للتملّص منه ، حيث بدت صلابة زعيم المستقبل ضد ريفي أكبر من صلابته ضد ميشال سماحة.
 
وعبر الماكينات الموازية تمّ إخراج زياد القادري وإستهداف محمد كبارة ونهاد المشنوق في الإنتخابات النيابية ، فضلاً عن إبعاد مصطفى علوش عن النيابة وعدم توزيره في الحكومة بدون أي تبرير أو "تعزية".
أما معين المرعبي ، فإن إعتماده توجهات الحريري السياسية فيما يخص قضية اللاجئين السوريين في لبنان ، وتعبيره عنها في وجه جبران باسيل خلال القمة العربية ، أدى إلى تخلي الحريري عن هذه التوجهات ومناصرة باسيل في وجه المرعبي ، في مشهدٍ فاضح للتخلي السياسي وإطباق الأفخاخ على "الضحايا" للتخلص منهم ، وتحديداً أولئك المتمسكين بالثوابت ، ولم يتضامن مع المرعبي سوى نهاد المشنوق معيداً نشر مؤتمره الصحافي على موقعه في "تويتر".
 
 
 
 
نهاد المشنوق: إشكالية الشخص لا مشكلة السياسة
 
إلا أن الحالة الأكثر إثارة للجدل في هذا السياق هي حالة الوزير نهاد المشنوق الذي كان الأكثر دفاعاً عن سعد الحريري ، وهو الوحيد الذي تجرأ ووقف على منر دار الفتوى في أزمة الإستقالة الشهيرة ، ورفض "مبايعة" بهاء رفيق الحريري مطالباً بعودة الرئيس المستقيل في الرياض.
يحاسب الأعدقاء في صفوف تيار المستقبل نهاد المشنوق على طموحه في الحصول على موافقة الحريري على تولي رئاسة الحكومة في حال قراره بعدم الدخول إلى السلطة التنفيذية مباشرة ، كما حصل مع الرئيسين فؤاد السنيورة وتمام سلام ، ولا يعلم أحد ما هي التهمة الصالحة للإدانة في هذا السياق..
 
لا يمكن للحريري أن يأخذ على المشنوق مأخذاً في السياسة ، فهو كان دائماً إلى جانبه ، وسانده في جميع المحطات ، وخاصة الحساسة والدقيقة منها. ويذكر الجميع كيف فرمل الإصطدام لحظة خروج الوزير أشرف ريفي من الحكومة ، في محاولةٍ منه لحفظ ماء الوجه للحريري ، رغم عدم شعبية هذا الموقف.
وكلما زاد تضامن المشنوق ، كان صدر الحريري يضيق ذرعاً به ، لأنه فعلياً كان يضيق بشخص المشنوق ووزنه وحضوره السياسي ، الذي رغم كل الجدل المندلع حوله ، بقي ركناً أساساً في السياسة اللبنانية.
رعى الحريري مراراً ، وبشكلٍ مكشوف ، الحملاتِ من داخل تيار المستقبل على الوزير المشنوق ، فكانت وجوهٌ مستقبلية واضحة تدير الحروب الإعلامية والحملات في وسائل التواصل الإجتماعي من دون أن تتمكن من النيل منه ، رغم فشله في تسويق خياراته وأدائه في أحيان كثيرة ، مما جعله هدافاً سهلاً للسهام والإستهداف.
مشكلة الحريري مع المشنوق لم تكن "تمرّده" عليه ، بل إنه في أهم المواضيع التي تشكّل مادة للصدام ، قال مراراً وتكراراً إنه لا يتقدّم إلى موقع رئاسة الحكومة إلا إذا كان هذا هو خيار سعد الحريري..
المشكلة كانت ولا تزال ، أن وفاء المشنوق يصعّب على الحريري إخراجه من المعادلة وإقصاءه من موقعه داخل تيار المستقبل وفي الحياة العامة.
لهذا لجأ الحريري إلى ذريعة فصل النيابة عن الوزارة لإستبعاد المشنوق ، بعد أن بذلت الماكينة المستقبلية الموازية جهوداً إستثنائية لإسقاطه في الإنتخابات النيابية.
 
من الوزراء السياسيين.. إلى الموظفين!
 
يمضي الحريري في خياره لإستبدال الوزراء السياسيين بالوزراء الموظفين ، كما فعل في النيابة ، ليتوّج نفسه زعيماً بلا أقطابٍ حوله ، وهو يعتقد أنه بهذا يقوّي مكانته داخل تياره وأمام الآخرين ، لكنه ينسى أن رفيق الحريري كان يضع رفاق دربه من نواب ووزراء ومستشارين إعلاميين في أماكنهم التي يستحقونها ، فكانوا بطانته ودرعه في الأزمات ، ولم يكن يتخلى عن أيٍ منهم ولو إضطر إلى حمايته بإبعاده عن الواجهة لفترة محدّدة ، تحت الضغوط السياسية والأمنية ، كما حصل مع المشنوق تحديداً عندما إستهدفه النظام السوري فأرسله رفيق الحريري إلى باريس لحمايته ولتبريد الحماوة مع هذا النظام.
يعتقد سعد الحريري أن بوسعه إعلان الوفاة السياسية لمن يشاء ، وإحياء من يشاء والإتيان به إلى "جنة السلطة" ، لكن الوقائع أثبتت أن هذه النظرية خاطئة ، وأن الذين أزاحهم الحريري من الحياة السياسية ، كانوا هم أنفسهم قابلين للشطب ، ولم يزولوا بقوة الحريري القاهرة ، والنماذج كثيرة في الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء ، وإن كانت أسباب صمود كلٍ منهم تختلف عن الأخرى..
خاض الحريري حرب إلغاء شاملة ضد الرئيس نجيب ميقاتي وسعى لإسقاط فيصل كرامي وجهاد الصمد وعبد الرحيم مراد وفؤاد مخزومي ، وغيرهم ، وإعتبر هؤلاء "خوارج" ، لكنه فعلياً لم يتمكن سوى من النيل من أشرف ريفي الطاعن بنتائج الإنتخابات التي شابتها مئات الشوائب ، وبقي ريفي حاضراً رغم كل ما تعرّض له من حروب..
 
عناصر الحرب على المشنوق
 
في حرب إلغائه الباردة على نهاد المشنوق ، إستخدم الحريري الكثير من الأوراق ، فكانت ماكينته الإعلامية تهاجم الوزير وتتجاهل أن صاحب القرار الأساس هو رئيس الكتلة والحكومة ، وليس العكس.
 
يسهل لخصوم المشنوق إستحضار قضية بلدية الطفيل وإجلاس وفيق صفا على طاولة وزارة الداخلية ، لكن هؤلاء يغيّبون أن أهالي تلك البلدة كانوا مهدّدين بالفناء وعاجزين عن حماية أنفسهم وتأمين ضروريات الحياة لأنفسهم ولعائلاتهم ، وأن جهود المشنوق أخرجت هؤلاء من موت محتم وأمنت لهم المأوى والرعاية..
 
وشكلت أوضاع السجون مادة إستهداف دائمة  ، حيث يسهل توجيه الإتهامات وجرّ الإعلام والرأي العام . فالجميع يذكر فيلم تعذيب الموقوفين ، لكن الذاكرة لا تستحضر أن أكثر من 60 عسكرياً أحيلوا إلى المحاكمة وتلقوا عقوبات قاسية نتيجة ما إرتكبوه ، في خطوة لم يشهدها العالم العربي ، والمتمثلة في أن يحاكَم "السجّان" لإنتهاكه حق السجين..
تستحضر ماكينة إستهداف المشنوق الحالات الصعبة في سجن رومية ، لكنها تتعامى عن حقيقة أن المشنوق إتخذ إجراءات صارمة طهّرت سجن رومية من الفريق الذي أفرغ قراراته من مفاعيلها ، وخاصة مساعدة السجناء الصحية وإجرءا العمليات لهم والعناية بأوضاهم الصحية ، وتتعامى أيضاً عن إنشاء مكتبٍ لحقوق الإنسان في سجن رومية وأن هذا السجن بات خالياً من "ضربة كف" اليوم بعد سلسلة الخطوات التي إتخذها المشنوق منذ وقعة التعذيب وما تلاها..
يتجاهل محرّضو الحريري على المشنوق أن الأخير عمل على حلّ مئات الملفات الآتية من مكاتب نواب المستقبل ، بعد أن وضع آلية تعاون قانونية إنسانية وعملية مع رئاسة المحكمة العسكرية بدون ضجيج أو دعاية ، بينما كان هؤلاء النواب يملؤون الأجواء ضجيجاً عند خروج أي موقوف من السجن.. وأن الأهم من هذا كله معالجة أساس المشكلة المتمثلة في إنفلات التوقيفات من المعايير القانونية وعدم تطبيق قرار مجلس الوزراء بإلغاء العمل بوثائق الإتصال والإخضاع لدى الجيش والأمن العام ، وهو القرار الذي كان المشنوق مهندسه والدافع الأكبر لإقراره في حكومة الرئيس تمام سلام.
وعند بروز إشكالية "مبنى الخصوصية الأمنية" قصد أهالي الموقوفين الرئيس الحريري وطالبوه بالتدخل لتعديل الإجراءات فيه ، فتعهد بحلّ المسألة وأحالهم إلى اللواء عماد عثمان ، وبين الحريري وعثمان ما زال الملف عالقاً ، تاركاً وراءه أسئلة ستبقى بعد مغادرة المشنوق لوزارة الداخلية ، أهمها: من يملك القرار ولماذا لا يتغير شيء رغم ما سمعه الأهالي من الحريري؟!
 
الإستقرار الأمني: إنجاز مظلوم..
 
وبينما حصد الحريري شعارات الإستقرار في طرابلس ، فإنه ترك المشنوق وحيداً في مساعيه لتطبيق الخطة الأمنية في بقية المناطق ليسهل تصوير المشنوق على أنه يستهدف السنة ويتواطؤ مع "حزب الله" ، بينما يعلم العارفون أن بيد الحريري مفتاح الحل لمشكلة الموقوفين ومسؤولية التوازن في القرارات الأمنية الكبرى.
وهذا يجعلنا نتساءل: كيف نفسر ما كتبه عبد الغني كبارة مستشار الرئيس الحريري لشؤون الشمال عندما قال: "قد يكون العديد من الذين إنحرفوا إلى جانب من هاجم وإفترى على الوزير المشنوق لسببٍ أو لآخر ، بدون أن يدركوا خلفيات ومجريات ما كان يحدث..إلا أن كلمة الحق يجب أن تـُقال بأن للوزير المشنوق الفضل الكبير لحالة الإستقرار التي شهدها الشمال ولبنان . كما أن عهده في وزارة الداخلية شهد العديد من الإنجازات آخرها إنتخابات ناجحة ونزيهة ، إضافة إلى العديد من الأمور التي تناولت الكثير من النجاحات في معظم المديريات والشعب مما جعل لبنان ينعم بالأمان رغم جميع الصعوبات والأزمات المحيطة به.. هذا رأيي بإخلاص وهذه كلمة حق".
 
وربما يحضر مع كلام كبارة كيف بقي المشنوق يدافع عن شعبة المعلومات أمام حصار وزير المال عليها طيلة أشهر في ظل الصمت المطبق لرئاسة الحكومة إلى أن أقر الحريري صيغة تنازل بمفعول رجعي..
إختصر المشنوق في حفل الإستلام والتسليم مع الوزيرة ريا الحسن هذا الملف بالقول:"حاولنا بقدر المستطاع تحويل منطق التنافس بين الأجهزة إلى منطق التنافس الإيجابي والتكامل بينها ، والنتيجة ثلاث سنوات وأكثر ، لم تشهد خلالها أي منطقة لبنانية وعلى رأسها بيروت إعتداءاً إرهابياً واحداً".
 
المشنوق: أيّ مسارٍ يسلك؟
 
رغم إقترابه من لحظة الحقيقة التي لا تعني سوى خروجه من تيار المستقبل ومواجهته تحدي الوجود السياسي المستقل ، وهو الذي لم يستخدم فـُرصَ الإنقضاض والإبتزاز رغم وفرتها طيلة مدة غياب الحريري وخلال وجوده في البلد.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: أيّ طريق سيسلكه المشنوق في قادمات الأيام؟
وهل سيبقى في الكتلة الزرقاء أم أن سياسة التطفيش ستؤدي إلى خروجه منها ؟
وكيف سيعمل المشنوق على ترميم التشويه الذي تعرّض له طيلة السنوات الأخيرة داخل البيئة السنية من داخل تيار المستقبل قبل الخارج ؟
ستتضاعف محاولات الخنق السياسي للمشنوق خارج السلطة ، وسيكون أمام تحدي الإستمرار في الخطاب والأداء بدون خدمات ونفوذ ، سوى ما بناه بشكلٍ مباشر خلال تاريخه السياسي الطويل..
سيجد المشنوق أن الجمهور السني يحتاج إلى من يسمعه وينطق بإسمه ، لأن إنهماك الرئيس الحريري في مسيرته السلطوية ترك فراغاً كبيراً في بيروت والمناطق ، ولكنه أيضاً أمام تحدي إعادة بناء صورته التي شوهتها سنوات وجوده في وزارة الداخلية  ، وهذا يوصل إلى أهمية وضع تعاطٍ مختلفٍ مع الإعلام ووسائل الوصول للناس ، وكيفية تسويق المواقف وتظهيرها ، والأهم كيفية إيجاد الحلول وإطلاق المبادرات للإسهام في رفع الظلم والحرمان الواقع على الشريحة التي يمثلها.
 
 
 
هل يحتاج لبنان أن يستمر المشنوق في السياسة؟
 
هذا السؤال يفرض نفسه مع إستحضار طبيعة الملفات والقضايا التي تستوجب حضور المشنوق ، سواء فيما يتعلّق بإدارة الوجود السني في الدولة ، أو بطبيعة طبخ التسويات ومنع تحوّلها إلى تنازلات ، ولعل هذا الجانب هو الأكثر حضوراً في شخصية المشنوق ، الذي لم تستطع كل التحوّلات أن تجعله متساهلاً في الحفاظ على الحدود الثابتة في الصراع السياسي.
بخروج نهاد المشنوق يخرج آخر الكبار من تيار المستقبل لتبقى بصمته مثيرة للجدل: بصمةَ حسد وضيقٍ لدى البعض للوزير المعبّر بكرامةٍ سَهُلَ تصويرُها تكبراً ، وبصمةَ إحترامٍ ومصداقية لدى من عرفه شخصياً وفي السياسة ، وبصمة تقديرٍ لدى من عرف كيف عمل هذا الرجل بكل تواضعٍ ومسؤولية وإحتواء ، وبكل جهدٍ ممكن لإيجاد المخارج الكريمة في اللحظات الصعبة والقاسية..
إنه حقاً زمن خروج آخر الكبار!