أكثر ما يتوق إليه اللبنانيون اليوم، هو العودة إلى الشارع. وحده الشارع يمثّل الاستقامة بالنسبة إليهم. اليوم، في السياسة، هكذا شارع جدير بخلق التوازن، بل هو وحده الكفيل بإعادة الاعتبار لصوت الناس، وللمطالب الاقتصادية والاجتماعية. الصرخات اللبنانية المكتومة منذ سنوات، احتجاجاً على  تردّي أحوالهم المعيشية، وسخطاً على انحطاط الإدارة والدولة والنخبة الحاكمة، تحتاج لمن يرفدها أو يدعمها بخطاب سياسي متماسك. استُفزّ اللبنانيون كثيراً، على مدى السنوات الفائتة، بشعارات برّاقة، لم يتحقق منها أي نتيجة إيجابية. فوجدوا أنفسهم أمام تسويات خدّاعة، أو صفقات مصالح.

هموم الناس

الفارق الجديد اليوم، هو تعالي صرخات أقطاب سياسيين بوجه تلك الاتفاقات و"التفاهمات" والصفقات. هنا تكمن أهمية دور الشارع، إن أُحسنت إدارته وترتيب أدائه، في فرض التغيير أو إعادة التوازن بين القوى السياسية، وإن على قاعدة مطلبية غير سياسية، بالحدّ الأدنى.

مهمّة الناس اليوم، استباق هؤلاء السياسيين، بمعزل عن مصالحهم السياسية أو غير السياسية، واستدراجهم إلى الشارع، وإلى الخانة التي يريدها الناس، لا تلك التي يريدها "الزعيم" وفق ما تقتضيه حسابات مصلحته. الغاية المثلى راهناً هي ظهور كتلة مواطنين قادرة على جذب قوى سياسية إليها واستقطابها إلى الساحات. على هذه الكتلة "الشعبية" عقد تحالفات مع أحزاب وتيارات وقادة سياسيين، من خلال استغلال الثغرات أو الاستثناءات أو الاعتراضات الناشئة على الاتفاقات والصفقات الفئوية الكبرى في البلد. أما خطابها، فيرتكز وحسب على مطالب شعبية جامعة، تحاكي الهموم اللبنانية، على امتداد هذه الجغرافيا، وإلقاء الخلافات السياسية والانقسامات جانباً.

في لبنان شواهد كثيرة، على عناوين جامعة، يمكن الاستعانة برمزياتها لإعادة تجديد الحراك وإطلاقه. تظاهرات طلاب الجامعة اللبنانية ومجالسها، كانت نموذجاً يحتذى في القفز فوق الانقسامات السياسية. والتظاهرة الشهيرة التي نظّمت من قبل الاتحاد العمّالي العام وبعض النقابات والتجمّعات النشطة، في أواخر ثمانينيات القرن الفائت، بإطلاق صرخة "لا للحرب" أو كفى حرباً، يمكن استعداتها اليوم. تلك التظاهرة، تجاوزت كل محرّمات الانقسام، وخرقت خطوط التماس، حيث كان اللقاء النقابي العمّالي عند المتحف. إطلاق صرخة واحدة، كانت كفيلة في إيصال الصوت وتوطيد المعنى. حدث هذا بمعزل عن السياقات الإقليمية والدولية التي أنهت الحرب. أيضاً، استكملت جهود تخطّي الانقسام السياسي في معركة الحريات التي أطلقت في التسعينيات ما بعد الحرب. حينها، عاد لأول مرة "الرأي العام" إلى الحياة كأول إنجاز للبنانيين بعد الحرب. المعركة من أجل الديموقراطية، كما السجال العام حول إعادة الإعمار، والحركات المطلبية في تلك الحقبة، ولا ننسى المعارك الانتخابية في المتن جبل لبنان، وشبان ساحة العدلية، ومعارك الصحف والتلفزيونات دفاعاً عن حرية التعبير.. كلها منحت اللبنانيين شعوراً أنهم شركاء في صوغ مستقبل بلدهم.

الغبن والتآمر

هذه الروحية الاعتراضية، البناءة والطموحة، يمكن لها أن تتجدد اليوم، بالركون إلى المطالب الاجتماعية، والحاجة الملّحة لقيادة البلد نحو سياقات مختلفة عن حال الانقسام السياسي الذي ساد منذ العام 2005. والذي في لحظته الأولى، كان بالإمكان أن يمثّل مشهداً لبنانياً جامعاً، لو لم يتحول انقساماً عمودياً إلى حدّ الهاوية.

مع إغفال الصراع الاقتصادي الإجتماعي، والبعد الطبقي والإجتماعي لأي صراع سياسي، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام مشكلة أساسية، تنامي شريحة المواطنين الذين يشعرون بالغبن والتآمر من قبل طبقة السياسيين. اليوم جزء من تلك الطبقة السياسية يشعر بالغبن والتعرّض للتطويق والاستفراد. وهذا ما يمكن أن يشكل تلاقياً عملياً، يمكن المراكمة عليه. وملاقاة هؤلاء السياسيين، وما يملكونه من تأثير شعبي وثقل بشري، يجعل الرهان على الشارع مجدياً وفعالاً.

بالمقابل، ثمّة فرصة أمام المستهدَفين من التسوية الأخيرة، للتلاحم مع المطالب الشعبية، بعيداً من الحسابات السياسية، وخارج أسار الطائفية أو المذهبية، لإطلاق شرعة مطالب متكاملة تجمع رؤى سياسية مختلفة، وتجتمع على كلمة واحدة، هي كلمة الإصلاح ووقف الفساد والصفقات. هذه وحدها ستكون مكسباً للقوى المغدورة في السياسة. تبني هموم الناس، وتحويلها إلى برنامج سياسي يرتقي إلى ثوابت الوفاق اللبناني وصيغته الديموقراطية وميثاقيته الراسخة دستوراً، ينقل الصراع إلى مرحلة مختلفة مع السلطة الجديدة المنبثقة للتو، والتي تبشرنا بأوليغارشية أكثر فساداً وأشد ميلاً لنظام الزبائنية الطائفية.

"الحركة الوطنية" وبشير الجميل

أمام الحزب التقدّمي الاشتراكي، والقوات اللبنانية، كقوتين مغبونتين مما يجري، فرصة لإعادة الاعتبار للشارع، وتمثّل هموم الشيعة والسنّة معاً قبل المسيحيين والدروز حتى، بعيداً عن أي خلاف سياسي، وبخطاب وأداء يسحب من الآخرين أي قدرة على االتعبئة العصبية والمذهبية. وعلى هاتين القوتين تقديم طروحات تتخطّى كل أنواع الانقسامات، وقائمة على وعي طبقي اجتماعي اقتصادي أولاً، لمواجهة تحالفات تستثمر دوماً الانقسام السياسي المذهبي، وتبني عليه، وتتربح من هذا الواقع باسم "تفاهمات" سياسية هي في حقيقتها محاصصات مالية واقتصادية، تعود بالنفع عليها وحدها، على حساب الدولة والمواطن.

الفرصة مؤاتية ومتاحة، لتفعيل عمل النقابات والاتحادات العمّالية. بيد القوات اللبنانية وزارة العمل، التي ستكون بحاجة إلى نفضة شاملة. فإذا ما دُعمت بعمل نقابي واسع وبإعادة إحياء التجمعات العمالية والنقابية، فستكون قادرة على فرض خيارات مختلفة في الشارع، تنجز ما عجز عن مواجهته هؤلاء بالسياسة. ولدى الحزب الإشتراكي تجربة مديدة في العمل النقابي والمطلبي، إذا ما أراد جنبلاط إحياء لحظات النوستالجيا، التي غالباً ما تعود به حنيناً إلى أيام الحركة الوطنية، وبرنامجها الإصلاحي، والذي بالمناسبة كان موضع توافق بين كمال جنبلاط وبشير الجميل في اجتماع حصل بينهما في العام 1976، للتعزية بمقتل ليندا جنبلاط. حينها، يقال أن الجميل وافق على "الملف الأزرق"، الذي كان بحوزة جنبلاط، ويتضمن البرنامج المرحلي الإصلاحي للحركة الوطنية.

أقرب من ذلك زمنياً، إن "المراجعة" التي قاما بها "الاشتراكي" و"القواتي" لسردية الحرب، أسباباً ونتائج، هي التي منحت "مصالحة الجبل" بعدها المؤثر وطنياً، أي الخروج من الوصاية ومن الانقسام ومن الماضي نحو طموح الحرية والسيادة والاستقلال، وطموح الدولة الديموقراطية المدنية.  

الساحة مفتوحة، أمام أي تحرّك من هذا النوع، ومتاحة لتعبئة فراغات المنطق الطائفي. والفرصة متاحة لمختلف القوى، ومنها حزب الكتائب، لتأليف معارضة سياسية، وحراك مدني اعتراضي يهدف إلى الخروج من حدود الطوائف إلى رحاب وطن أفضل.