بغضّ النظر عن مستوى الـحضور، إنتهت أعمال القمّة الإقتصادية التنموية «على سلامِة». جـميع الوفود العربية (ما عدا الوفد الليبـي)، حضرت وغادرت من دون أن تـحصل «ضربة كفّ». لقد سُـمح لكل الوفود بدخول الأراضي اللبنانية، والـحصول على تأشيـرات الأمن العام. نأت الـميليشيات بنفسها ووقفت على الـحياد. لـم تُقطَع طريق الـمطار بالإطارات الـمشتعلة ولـم تنتشر «القمصان السود» ولا الدراجات النارية، وبقيت أعلام الدول الـمشارِكة ترفرف على الساريات. إنه إنـجاز تاريـخي يُسجَّل فـي سجلّات الدولة السيّدة على أرضها بأحرف من ذهب. فبعد الذي حصل فـي «الـجاهلية»، وما حصل للليـبـيّــيـن وعلم بلادهم، يـجعلنا نشكر الرب على نعمة السلامة للقمّة والـمشاركيـن فيها.

على رغم الـمقاطعة العربية الـمقصودة والـتمثيل الـمتواضع، وعلى رغم عدم تبنّـي القمّة مبادرة رئيس الـجمهورية لإنشاء مصرف عربـي لإعادة الإعمار والقيام بـمشاريع تنموية، فقد نـجح لبنان فـي تنظيم القمّة وفـي خرق الـمقاطعة بـحضور أميـر قطر واكتـتاب بلاده بــ 500 مليون دولار فـي السندات السيادية للبنان من أجل دعم إقتصاده. غيـر أنّ الفرحة لـم تكتمل، إذ نغّصها إعلان «موديز» تعديل النظرة الـمستقبلية لتصنيف لبنان إلى سلبية، وتـخفيض تصنيفه من B3 إلى Caa1، فـي ظلّ إزدياد مـخاطر السيولة والإستقرار الـمالـي، وفـي غياب أيّ بوادر فعليّة لدخول الإصلاحات التـي تعهّد بـها لبنان فـي مؤتـمر «سيدر» حيّز التنفيذ مع غياب الـحكومة. 

هل يـحقّ لنا أن نلوم وكالتـي «موديز» و»فـيـتـش» على تعديل نظرتـهما الـمستقبلية لتصنيف لبنان الإئتمانـي من مستقرّ إلى سلبـيّ بعدما أضعنا كل الفرص وأقفلنا الأبواب أمام كل الـحلول ورقصنا على حافة الـهاوية تسعة أشهر، وأهـملنا إصلاحات برنامـج «سيدر» وما يـمكن أن يؤمّن من تدفّقات مالية واستـثمارات جديدة وتـحفيز للإقتصاد؟

وهل يـحق لنا أن نلوم ونعتب على القادة العرب إن لـم يلبّوا الدعوة ويـحضروا بأنفسهم إلى القمّة العربية التنموية الإقتصادية بعدما «نشرنا غسيلنا» على كل السطوح، وبعدما ربط الثنائي الشيعي وحلفاء النظام السوري إنعقاد القمة بـمشاركة سوريا ؟ ألا يعنـي هذا الربط، بنظر الرؤساء والـملوك، أنّ «الثنائي» كان على إستعداد لتعطيل القمّة إذا لـم تُدعَ دمشق؟

وهل نلوم القادة العرب على غيابـهم، بعدما حوّلنا منبـر القمّة التنموية منصّة دعائية لإعادة نظام بشار الأسد إلى الـجامعة العربية، وحسَم لبنان موقعه فـي الصراع الإقليمـي، منهياً سياسة النأي بالنفس التـي إعتمدها بيان حكومته بعد إستقالة الـحريري؟ وكيف نقرأ كلام الوزير باسيل «لا يـمكن أن تكون هذه العلاقات (السورية) موضع مزايدة داخلية يستـخدمها طرفٌ ما يريد أن يُـحسّن علاقته الـخاصة بسوريا فيزايد على حساب لبنان»؟ إنّ خلافات الـمسؤوليـن وانقساماتـهم العميقة والتناقضات السياسية اللبنانية حيال موضوع عودة سوريا إلى الـجامعة العربية تداخلت مع أعمال القمّة، فأفشلت الكثـيـر من الإيـجابيات التـي كانت متوقّعة منها.

إلى متـى سيبقى لبنان يعيش فـي دوامة النزاعات والـخلافات الداخلية، ورهينة الصراعات الإقليمية والدولية؟ وماذا سيحصل بعد مؤتـمر وارسو الشهر الـمقبل الذي دعت إليه الولايات الـمتحدة الأميـركية، والـمخصّص للبحث بـمواجهة «إيران الإرهابية»؟ بلا ريب، لبنان لن يـحضر هذه القمّة، ولكن يبدو أنّ هناك إجـماعاً دولياً، كما حصل فـي مواجهة «داعش»، بالتصدّي للتوسّع الإيرانـي وضرب أذرعته الـمسلّحة فـي الإقليم. 

الـمنطقة تغلي على صفيح ساخن، والغارات الـجوية والصاروخية الإسرائيلية تزداد وتيـرتـها يوماً بعد يوم على مواقع قرب دمشق تابعة لإيران و»حزب الله»، بـمباركة أميـركية و»قبّة باط» روسية، إذ لا يـمكن أن تـحصل هكذا إعتداءات إلّا فـي سياق توافق دولـي، ما يـجعل إمكانية إندلاع حرب بيـن إسرائيل وإيران متوقّعة فـي أيّ وقت.

فـي خضمّ هذه «الـمعمعة»، وقبل هبوب العاصفة، ما هو الـمطلوب من لبنان ؟ إذا طلبنا وقوفه على الـحياد، نكون غيـر واقعيّـيـن، لأنّ قرار الـحياد ليس فـي يده، ولأنّ «حزب الله» منـخرط حتـى العظم فـي الـمشكلة الإقليمية الكبـرى. كلّ ما يـمكن أن نطلبه، بعدما وُلدت الـحكومة بعملية قيصرية قبل أن تستهلك الشهر التاسع بكامله من تاريخ التكليف، هو الإسراع بوضع بيان وزاري يـخرج عن رتابة التوافقات اللفظية الفارغة، ويـحدّد بوضوح الأولويات التـي يـجب أن تنطلق منها الـحكومة، بدءاً بـمعالـجة قطاع الكهرباء الذي يستنزف الـجزء الأكبـر من موارد الدولة، والذي يُعتبـر الـمُسبّب الرئيسي للعجز فـي الـموازنة وفـي إرتفاع الدين العام إلى 85 مليار دولار. والـمباشرة فوراً بورشة النهوض الإقتصادي والإصلاح الـمالـي اللذين تعهّد بـهما لبنان فـي مؤتـمر «سيدر»، وخوض معركة مكافحة الفساد بـجرأة وتـجرّد، وذلك بإنشاء مـحكمة خاصة لـمكافحة الفاسديـن الذيـن نـهبوا أموال الدولة، وتطبيق قانون «من أين لك هذا» ؟ قبل إنـهيار الـهيكل على رؤوس الـجميع. 

يقول إدوارد سنودن: «لن تكون هناك ثقة فـي الـحكومة إذا تـمّ إستـثـناء أعلى الـمناصب من التدقيق.. يـجب أن يكونوا مثالاً للشفافية».