من الجيِّد أن يحظى لبنان بحكومة، بعد نحو تسعة أشهر من الصدامات والمواجهات والتعقيدات وشدّ الحبال و«تذاكي» الأطراف السياسية.
 

صحيح أنّ ولادة الحكومة هذه أنتجَت صدمة ايجابية وأملاً في الحد من الانهيار الاقتصادي والمالي ومعالجة حال الاهتراء والتآكل التي تصيب ادارات الدولة ومؤسساتها، ولكن التركيبة الوزارية تعزِّز الانطباع بأنها ستكون «حكومة متاريس» تعزّزها ملفات «سيدر» الدسمة.

في وزارة الخارجية الاميركية ترحيب حذر بالولادة الحكومية، ذلك انّ رئيس «مكتب لبنان» والمعيَّن حديثاً فَضّل عدم التعليق امام الذين تواصلوا معه حول انطباعاته، مفضّلاً الانتظار بعض الوقت.

والواضح انّ في جواب المسؤول الاميركي كثير من الحذر والترقب، ولهذا معناه الكبير.

لكّن لبنان الذي سينشغل خلال المئة يوم المقبلة في متابعة تفاصيل البيان الوزاري المتفق عليه منذ تكليف الرئيس سعد الحريري، ومراقبة الأداء الحكومي، معنيّ ايضاً بتطورات خارجية بالغة الأهمية ستؤثر مباشرة في الوضع اللبناني.

أبرز هذه التطورات ما يحدث على الساحتين الاميركية والاسرائيلية.

ففي الولايات المتحدة الاميركية يزداد النزاع الداخلي خطورة، اذ انّ الرئيس دونالد ترامب الذي يفقد حظوظه الدفاعية أمام التحقيق الذي يقوده المحقق روبرت مولر، بات يواجه تحديات مقلقة من داخل الحزب الجمهوري.

فمثلاً أن يُقر مجلس الشيوخ تعديلاً يعرقل قرار البيت الابيض الانسحاب من سوريا وافغانستان في ظل سيطرة الجمهوريين على المجلس، ليس بمسألة عادية. والأهم أن من تقدّم بمشروع القرار هو زعيم الغالبية الجمهورية ميتش ماكونيل.

وفي آخر استطلاع للرأي أجرته صحيفة «واشنطن بوست»، ظهر انّ 55% من الاميركيين لا يريدون التجديد لترامب عبر انتخابه لولاية ثانية، في مقابل 28% فقط، في حين قال 14% انهم لم يتخذوا قرارهم بعد.

وكان لافتاً انّ معارضي التجديد لترامب توزعوا ما بين 59% من المستطلعين المستقلين و64% من النساء و56% من الذين يقطنون في الضواحي.

هي أخبار غير سارّة لترامب، دفعت بعض المسؤولين الكبار في الحزب الجمهوري الى طلب إخضاعه لانتخابات تمهيدية قبل تسميته مرشحاً للرئاسة خشية الوقوع في هزيمة ساحقة، خصوصاً انّ الشارع الاميركي يحمِّله مسؤولية الاغلاق الجزئي لإدارات الحكومة الفدرالية.

عادة، يكون الرئيس الاميركي المرشّح التلقائي لحزبه من دون خوض الانتخابات التمهيدية، لكن مع وجود استثناءات، كما حصل عام 1976 عندما سعى حاكم كاليفورنيا يومها رونالد ريغان لانتزاع ترشيح الحزب الجمهوري من الرئيس جيرالد فورد، وهو ما حصل ايضاً مع الرئيسين جيمي كارتر وجورج بوش الأب. لكنّ المفارقة الاهم انّ الرؤساء الثلاثة الذين واجهوا تحديات الانتخابات التمهيدية خسروا الانتخابات العامة في نهاية الامر.

هذا الواقع الداخلي الصعب امام ترامب من المرجّح ان يزداد سوءاً مع تطور تحقيقات مولر، ما يعني انّ ترامب الذي اشتهر بقراراته المتهورة، قد يجنح في اتجاه قرار أكثر تهوراً بهدف تلميع صورته داخلياً، ما يفتح الاستنتاجات حول توتير ما في الشرق الاوسط ضد ايران غير محسوب بدقة وبشكل مخالف لرأي وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية.

ويلفت في هذا الاطار عزم أعضاء في الكونغرس من الحزبين الديموقراطي والجمهوري على إصدار قرار بتقييد حق ترامب في استخدام الاسلحة النووية، إلّا بعد اخذ موافقة الكونغرس على ذلك.

وعلى الساحة الاسرائيلية تبدو الصورة اكثر خطراً. فرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لم يعد مطمئناً لمعركته الانتخابية بعد دخول رئيس الاركان السابق بيني غانتس حلبة السباق. وفي آخر استطلاعات الرأي نال نتنياهو 47% في مقابل 41% لغانتس لموقع رئاسة الحكومة.

صحيح انّ نتنياهو ما يزال في الطليعة، لكنّ الفارق تقلص كثيراً مع منافسه، وما يزال هناك وقت طويل قبل فتح صناديق الاقتراع. والخطورة انّ غانتس كان رئيساً لاركان الجيش في صيف 2014 عند تنفيذ «الجرف الصامد» ضد غزة، ويخوض معركته الانتخابية الناجحة متكئاً على صورته العسكرية، ما قد يدفع نتنياهو بصفته وزيراً للدفاع الى تنفيذ ضربة عسكرية ما تمنحه «بريق» القوة على حساب غانتس.

ويخشى نتنياهو ان يكون هناك دفع أميركي لغانتس على اساس التزامه «صفقة العصر» التي يعوّل عليها ترامب كثيراً في حملته، فيما يتّجه نتنياهو نحو ترؤس تحالف يميني ديني يعارض الصفقة.

المسألة الصعبة هنا هي في ردة فعل عسكرية لنتنياهو، مسرحها الاساسي سوريا وفي احتمال أضعف لبنان. لكنّ الانزلاق نحو واقع غير محسوب يبدو وارداً في حالات كهذه.

حتى الآن تتقاطع «الحشرة» الاميركية مع «الحشرة» الاسرائيلية في مؤتمر وارسو، الذي يهدف الى تركيز خطة لتطويق ايران، وفي الوقت نفسه لإدخال اسرائيل لتصبح عضواً طبيعياً في المحور العربي المناهض لإيران، وهو ما سيفتح الباب اكثر أمام صفقة القرن.

وفي هذا المؤتمر سيحضر نتنياهو خطيباً الى جانب وزراء خارجية السعودية والبحرين والامارات وعمان والاردن، فيما جرى إسقاط دعوة السلطة الفلسطينية.

وسيشارك في المؤتمر نائب الرئيس الاميركي مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو، اضافة الى مستشار ترامب وصهره جاريد كوشنر والمبعوث الخاص جيسون غرينلات، وهو من يؤكّد هدف فتح الابواب أمام صفقة القرن.

في وارسو سيكون السقف مرتفعاً، ولكن هل سيشكِّل المؤتمر دفعاً داخلياً قوياً لترامب ونتنياهو؟

على الأرجح كلا. وهذا ما يعني انّ التقدم في الوقت الذي يعمل ضد مصلحة ترامب ونتنياهو على حد سواء قد يدفع بهما الى خيارات متهورة او مجنونة، وهنا مكمن الخطر كون الساحة الشرق أوسطية هي الساحة المفتوحة على المبارزات وعرض العضلات، والسعي لاستثمار الدمار وتحويله نقاطاً ثمينة في اللعبة الانتخابية المحشورة.