ما بين كامل شياع في 2008 وعلاء مشذوب في 2019 تمتد خيوط جريمة لم تكتمل بعد فصولها وقد لا يسدل الستار عليها في مدى زمني منظور. فالمثقف في بلاد الرافدين محاط بحشد من القتلة المحترفين الذين يضعون أيديهم مباشرة على الزناد وهم يحصون أنفاسه في انتظار كلمة نزيهة، تكون بمثابة إعلان لتنفيذ حكم إعدام صادر سلفا في حق الثقافة والمثقفين في بلد، تحكمه أحزاب أصولية متطرفة ترى في المثقف صورة العدو الخطير الذي يشكل وجوده فضحا لمشروعها الظلامي في التجهيل والإفقار والإفساد ونشر ثقافة الموت والكراهية.

لذلك فإن تصفية الروائي مشذوب أمام بيته بكربلاء في ليل عراقي طويل تتخذ طابعا رمزيا مزدوجا. فهي من جهة رسالة مفرطة في العنف والقسوة توجهها الميليشيات الإيرانية إلى المثقفين العراقيين من أجل أن يلوذوا بصمت مذل حفاظا منهم على حياتهم، وهي من جهة أخرى إعلان لا لبس فيه عن حالة العزلة التي يعيشها المثقف العراقي وهو يتلفت باحثا عن حماية لن يجدها بعد أن استضعفت الميليشيات المجتمع وقطعت صلته بالعصر الحديث وأصواته التي يمثلها المثقفون.
 
عام 2008 قُتل كامل شياع وعجزت الأجهزة الأمنية عن العثور على قتلته بالرغم من أنه كان يحتل منصبا رفيعا في الدولة وكانت تلك الجريمة التي لم تقع بالصدفة إيذانا ببدء عمليات تصفية تعرض لها مثقفون وناشطون سياسيون عراقيون، أشهروا معارضتهم لمشروع الدولة الدينية الفاسدة الذي تنفذه الأحزاب الحاكمة برعاية إيرانية وحماية مباشرة من قبل الميليشيات، وكان مشذوب آخرهم.
 
الروائي والأكاديمي المتخصص بالسينما اغتيل في شارع رئيسي يحظى يتواجد أمني كثيف وسط مدينة كربلاء. وهو ما يشير إلى تواطؤ مكشوف بين الأجهزة الأمنية والقتلة الذين ينتمون إلى واحدة من الميليشيات التي لا تخفي تهديدها بالقتل لكل من تسول له نفسه الاقتراب من مسألة الهيمنة الإيرانية على العراق. لذلك فإن استنكار الحكومة العراقية للحادث ما هو إلا محاولة للتضليل والتنصل من المسؤولية. فلائحة الأسباب التي تقود إلى العقاب خارج نطاق القانون باتت معلنة، ومنفذو التصفيات في الشوارع صاروا معروفين من غير أن تملك الدولة الرغبة في ملاحقتهم أو إيقافهم على الأقل عن ممارسة جرائمهم البشعة.
 
ولن يكون من باب التكهن القول إن الدولة القائمة على الفساد هي أول المستفيدين من صمت المثقفين وهو هدف التصفيات. فليس هناك خلال تعامل الحكومات العراقية المتتالية منذ 2003 مع المثقفين ما يشير إلى رضاها عما يفعله القلة منهم ممن وضعت نفسها كما يُقال في وجه المدفع. وإذا ما كانت الدولة قد غضّت الطرف في بعض الأحيان فلأنها تعرف أن تلك القلة قد أدخلت نفسها في متاهة انتحارية ستكون كفيلة بالقضاء عليها.
 
وبذلك تكون الدولة مسؤولة بشكل كامل عن الوضع الإنساني المتردي الذي يعيشه المثقفون العراقيون بين سندان العزل والقهر والخوف ومطارق الميليشيات الجاهزة للضرب وبقسوة في أي لحظة.
 
علاء مشذوب الذي أصدر أربع روايات وثلاثة كتب قصصية وله عدد من الدراسات الفنية والتاريخية وهو أستاذ جامعي لا تقع مسؤولية قتله على مجرمي الميليشيات الذين نفذوا في حقّه حكم الإعدام مباشرة فحسب، بل وأيضا على الدولة التي تقف عاجزة عن حماية المجتمع الذي وثق بها وعلى المجتمع الذي ارتضى أن يكون أمره رهين إرادة قطاع الطرق. العراق بمقتل علاء مشذوب يبدو أكثر فقرا في خياله ونزاهته.