سرعان ما أصيب الأميركيون بخيبة أمل، مع احتلال السفارة الأميركية في طهران في نوفمبر 1979، واحتجاز الرهائن واستقالة حكومة بازركان وبدأ من حينها الفيلم الأميركي الإيراني المستمر حتى اليوم.
 

أربعة عقود من الشد والجذب شهدنا مجرياتها بين إيران والغرب وإسرائيل ودفع العالم العربي الكثير من أثمانها. لكن قبل الوصول إلى الوضع الذي نشهده اليوم (دور نظام ولاية الفقيه في زعزعة استقرار العالم العربي وتهديد أو ابتزاز الغرب والعالم دون مواربة) تتوجب الإحاطة بما يتيسر من معلومات مدققة وشهادات ووثائق عن الانخراط الملموس لعدة قوى غربية في المنعطف الإيراني آنذاك.

نبدأ من فرنسا التي وصل إليها آية الله الخميني في 6 أكتوبر 1978 قادماً من العراق بعد إبعاده من منفاه في بغداد ورفض الكويت استقباله. كشف الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك في مذكراته، عن قيام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين (كان يومها نائباً للرئيس وأقام صداقة شخصية مع شيراك وراهن على العلاقة مع فرنسا) بتوجيه نصيحة له عبر رسالة من السفير العراقي في باريس بعدم منح اللجوء في فرنسا لآية الله الخميني وكان تحذيره كالتالي “احذروا جيدا، لأن ما سيصرح به في فرنسا سيكون له صدى دولي مدوّ”.

ويبدو أن صدام الذي ربما ندم على قرار بلده طرد قائد المعارضة الإيرانية حينها والتخلي عن تلك الورقة، حاول الاستدراك مع صديقه الفرنسي، لكن شيراك الذي كان يومها خارج نطاق المسؤولية طرح الموضوع على الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان الذي أبلغه بشكل أو بآخر أن استقبال الخميني يحظى بتوافق غربي وأميركي بالطبع.

سرعان ما تحول مقر إقامة الخميني في نوفل لو شاتو إلى خلية لإدارة الانتفاضة ضد الشاه، وكان تأثير أشرطة التسجيل التي يرسلها الخميني إلى الداخل الإيراني شبيها بأثر وسائل التواصل الاجتماعي في أيامنا. وتركز شهادات الرسميين الفرنسيين على أنه لم يحصل أي لقاء رسمي بين الخميني والجانب الفرنسي إلا في يناير 1979، حين زار مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية مقر إقامة الخميني، وحسب شهادة أحد الحاضرين “عبر الدبلوماسي الفرنسي عن قلق فرنسا من مواقف الإمام العلنية، وطلب منه أن يتوقف عن مهاجمة الشاه لكن الخميني رفض، وقال له إنه مستعد لتقبل قرار الإبعاد، لكنه لن يغض الطرف عما يحصل في إيران.

من خلال الوثائق الدبلوماسية التي جرى كشفها، يصر دبلوماسي أميركي عاصر تلك المرحلة على أنه “يمكن تقديم العديد من الانتقادات للولايات المتحدة بسبب سياستها الملتبسة خلال الثورة الإيرانية، إذ كانت إدارة الرئيس جيمي كارتر بطيئة في تحليل الأزمة في إيران.

لم يكن الهدف الأميركي طرد الشاه لضمان عودة الخميني، بل كان هناك رهان على التوصل إلى حل سلمي من شأنه الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة”. لكن مع تغطية واشنطن (وربما نصيحة إسرائيل من خلال التعاون الأمني) لتحييد القوات المسلحة وعدم صمود شهبور بختيار، قام الجانب الأميركي بشكل غير مباشر بتسهيل وصول نظام فشل في تقييم الوضع الذي أدى إلى ذلك، لأن الهم المركزي كان منع اليسار والقوى الثورية الإيرانية الأخرى من الوصول إلى الحكم وتنصيب نظام ديني بمثابة “أفضل عدو للاتحاد السوفييتي والشيوعية”.

يمكننا أن نشكك في بصمات مستشار الأمن القومي الأميركي والمفكر زبيغنيو بريجنسكي الذي اعتمد “سياسة الحرب الدينية الإسلامية الجهادية في تحرير أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي الملحد”، ونجم عنها جعل أفغانستان “فيتنام السوفييت”، ويمكن أن نتلمس أثره في قرارات إدارة كارتر بخصوص التخلي عن الشاه لتركيب حصن أفغاني – إيراني يمنع موسكو من الوصول إلى المياه الدافئة، بالرغم من الظاهر في الوثائق عن إقناع بريجنسكي لرئيسه كارتر بإلغائه اجتماعا بين الخميني والمبعوث الأميركي ثيودور أليوت، كان اقترحه وزير الخارجية سيروس فانس والسفير في طهران وليام ساليفان.

جرى بعد ذلك ترتيب لقاء بين أحد كبار مساعدي الخميني إبراهيم يزدي والدبلوماسي الأميركي في باريس، وارن زيمرمان، لكن لا يمكن تفسير ذلك بأن كارتر أعطى الخميني الضوء الأخضر، حسب الشهادات المتقاطعة، ولم يكن لقاء زيمرمان ويزدي في باريس تمهيداً للعودة المظفرة للخميني وإنما لإقناعه بتأجيل رحلته لأن البيت الأبيض كان يأمل في كسب الوقت لمنح حكومة بختيار فرصة للنجاح، وقد أرادت الولايات المتحدة أن تعطي الانطباع بأنها تبذل قصارى جهدها لمنع انقلاب عسكري، ويقال إن زيمرمان أبلغ يزدي بأن “اليسار هو الوحيد الذي يكسب في صدام بين التيار الديني والعسكر”.

تشير محاضر الجلسات إلى أن معسكر الخميني يخشى وقوع انقلاب عسكري، ولوحظ أن إدارة كارتر لم تشجع الجيش على الاستيلاء على السلطة ربما بسبب استنكاف أو تقليد عند المؤسسة العسكرية منذ 1906.

اقتنع كارتر بأن حاكم إيران الشاه استبدادي، وعليه أن يغادر مخلفا وراءه وزارة لا تحظى بشعبية وجيشا في حالة من الفوضى. وأكد الخميني في رسالته “عدم الذعر من فكرة فقدان حليف استراتيجي، وطمأن الأميركان بأنه أيضا باستطاعته أن يكون صديقا”، موضحا في رسالته “سترون أننا لسنا في أي عداء معكم”.

جاءت رسالة الخميني ضمن وثائق رفعت عنها واشنطن السرية وتدل على حوار أميركي مع الخميني، نتيجة لمحادثات مباشرة جرت لمدة أسبوعين بين رئيس أركان الخميني وممثل للحكومة الأميركية في فرنسا.

وتكشف الوثائق أنه بعد مغادرة الشاه أخبرت واشنطن مبعوث الخميني أن “الولايات المتحدة مع فكرة تغيير الدستور الإيراني، وإلغاء النظام الملكي، وأن القادة العسكريين الإيرانيين سيجدون مرونة بشأن مستقبلهم”. وتشير الوثائق إلى أن “الخميني يعتقد أن وجود الأميركيين في إيران أمر مهم للغاية وذلك لمواجهة النفوذ السوفييتي الملحد والبريطاني”.

في 9 يناير 1979 كتب نائب مستشار الأمن القومي ديفيد آرون إلى زبغنيو بريجنسكي “أفضل ما يحدث من وجهة نظري في إيران هو انقلاب عسكري ضد رئيس الوزراء شهبور بختيار ثم التوصل إلى اتفاق بين الجيش والخميني الذي أطاح بالشاه. تصوري هو إمكانية تنفيذ الصفقة دون تدخل عسكري ضد بختيار”. وبعد ذلك بيومين قال الرئيس جيمي كارتر للشاه “عليك ترك إيران على وجه السرعة”.

وتكشف الوثائق ما هو مثير للدهشة، ويبين حجم السذاجة أو التواطؤ، ما كتبه الخميني بأن “نظامه لن يتدخل في شؤون الدول الأخرى، وأن الجمهورية الإسلامية على عكس نظام الشاه لن تكون بمنزلة شرطي الخليج، وأننا لن نصدر الثورة للخارج، ونحن لن نطلب من شعب المملكة العربية السعودية والكويت والعراق طرد الأجانب من بلادهم”.

ووصل الأمر بتكتيك المرشد المستقبلي أن يبعث بتاريخ 5 يناير 1979 برسالة مطمئنة إلى واشنطن، تنص على أنه “يجب ألا تكون هناك أي مخاوف على النفط، وليس صحيحاً أننا لن نبيعه إلى الولايات المتحدة”، وكتب “نبيع نفطنا لمن يشتري بسعر عادل، وسيستمر تدفق النفط بعد قيام الجمهورية الإسلامية إلى العالم” مضيفا “إيران بحاجة إلى مساعدة الآخرين، لا سيما الأميركيين لتطوير البلاد”.

بعد عودة الخميني في 1 فبراير 1979، وانهيار حكومة بختيار في 11 فبراير، كان الأميركيون يفتقرون إلى الأفكار وغير قادرين على فهم أن ثورة يقودها مرجع ديني يبلغ من العمر 76 عامًا يمكنها تأسيس دولة إسلامية. إنهم مثل الكثير من المعارضة العلمانية للشاه، كانوا مقتنعين بأن الإمام لم يكن قادراً على قيادة دولة حديثة.

كانوا مقتنعين بأن عناصر الحركة الثورية العلمانية الأكثر ليبرالية، عاجلا أم آجلا، ستصل إلى السلطة وتتبع سياسة خارجية واعية. لكنهم سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل، مع احتلال السفارة الأميركية في طهران في نوفمبر 1979، واحتجاز الرهائن واستقالة حكومة بازركان وبدأ من حينها “الفيلم الأميركي الإيراني” المستمر حتى اليوم.

هذا غيض من فيض من حكاية ثورة أكلت أبناءها وعن حنين إمبراطوري دفين وعن مشروع توسعي تحت يافطة الإسلام والمستضعفين، ولم يكن دفاعياً في مواجهة محيطه مع حرصه على احترام سقف التجاذب مع القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة مع ترامب أو مع من كان قبله.