هل انتهت بيروت كي تنتهي المستقبل؟ الأكيد أن بيروت ما زالت تقاوم وإنْ بصعوبة. لكنّ إحدى المشاكل المطروحة تكمن في غياب الاهتمام العربي بلبنان وبالإعلام اللبناني بالذات.
 

يعطي إغلاق جريدة “المستقبل” في بيروت فكرة عمّا آلت إليه الأوضاع في لبنان. فإغلاق “المستقبل” جزء لا يتجزّأ من سقوط لبنان الذي عبّرت عنه القمة الاقتصادية العربية التي استضافتها بيروت قبل نحو أسبوعين، والتي قاطعها الزعماء العرب، خصوصا قادة دول الخليج.

إذا كان على المرء أن يكون أكثر دقّة، فإن إغلاق “المستقبل”، التي لعبت دورا في إطار مشروع النهوض الثاني للبنان الذي جسّده رفيق الحريري وعبرت عن الخروج من الحرب، هو جزء من إغلاق العاصمة اللبنانية ولإنهاء دورها العربي والدولي. المقصود هنا دور بيروت على الصعيد الإقليمي كمدينة يقصدها كلّ عربي يريد أن يكون على تماس مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم، خصوصا في مجال التعليم والإعلام.

في النهاية، لا يمكن تجاهل أن الجامعة الأميركية في بيروت تأسّست في العام 1866 في وقت لم تكن في المنطقة جامعات ذات مستوى باستثناء مصر. في مرحلة لاحقة ظهرت جامعات مهمّة في العراق، وبدأت منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي تنشأ جامعات في دول الخليج. أصبحت حاليا هذه الجامعات تمتلك مستوى يتمتع باحترام كبير. سمحت الحياة الجامعية والثقافية في لبنان بأن تكون بيروت عاصمة للإعلام العربي الذي تغيّرت طبيعته لأسباب كثيرة من بينها تمكن معظم الدول العربية المهمة من امتلاك صحف وفضائيات ووسائل اتصال اجتماعي خاصة بها.

قبل عشرين عاما، أعاد رفيق الحريري إطلاق “المستقبل” وذلك كي تكون منبرا لمشروع سياسي واقتصادي وتنموي يصبّ في إعادة الحياة إلى كلّ لبنان. لم يكن النظام السوري راضيا تماما عن هذه الخطوة. لكنّ رفيق الحريري، الذي كان يعرف كيفية مراعاة هواجس هذا النظام، استطاع طمأنته إلى أن “المستقبل” لن تكون جريدة معادية، وأن مشروع إعادة الحياة إلى لبنان لا يصبّ في الضرورة ضدّ سوريا حيث يعاني النظام من عقدة المدينة التي لا يسيطر عليها. كان حافظ الأسد حاقدا على كلّ مدينة كبيرة، أكان ذلك في سوريا أو في لبنان. كان حقده على أهل السنّة المنتمين إلى المدن كبيرا. لذلك لم يثق، يوما، بأهل دمشق أو حلب أو حمص أو حماة أو بالأهل الأصليين لمدينة مثل اللاذقية. ليس تدمير المدن السورية الكبرى سوى دليل على مدى حقد النظام السوري على كلّ من يستطيع أن تكون لديه قيمة معنوية وحيثية خاصتين به، من دون حاجة إلى أن يكون تابعا لهذا الضابط أو ذاك في أحد الأجهزة الأمنية. انسحب حقد حافظ الأسد على سنّة المدن الكبرى على زعماء لبنانيين مثل صائب سلام وتقيّ الدين الصلح فاغتالهما سياسيا.

نجح رفيق الحريري في إطلاق جريدة “المستقبل” عبر وضع أشخاص محسوبين على إحدى الشخصيات الأمنية التي يثق بها حافظ الأسد في الواجهة. في الواقع كان رئيس الوزراء اللبناني، الذي آمن بأنّ إعمار لبنان ليس موجها ضد سوريا، وأن سوريا نفسها تستطيع الاستفادة من عودة الحياة إلى بيروت وإلى لبنان، يأمل في علاقة من نوع آخر بين بيروت ودمشق. علاقة تقوم على المصلحة المشتركة. لم يدرك إلا متأخرا أن لا مكان لمثل هذا المنطق في أوساط النظام السوري، خصوصا بعدما خلف بشّار الأسد والده.

في عهد بشّار الأسد، زاد الحقد على “المستقبل” وعلى بيروت بالذات. بلغ هذا الحقد أبعد مداه عندما اغتيل رفيق الحريري مع رفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. كان اغتيال رفيق الحريري يستهدف اغتيال لبنان على مراحل. كان الرئيس اللبناني الراحل إلياس الهراوي على حقّ عندما قال لزوجته السيدة منى التي نقلت إليه خبر تفجير موكب رفيق الحريري: “طار البلد”.

خدمت جريدة “المستقبل” مشروع الإعمار والإنماء، ولعبت بعد شباط – فبراير 2005 دورها في مقاومة الوصاية السورية والتخلّص منها، ثم مقاومة سعي إيران إلى إحلال وصايتها على لبنان وملء الفراغ السياسي والأمني الناجم عن الانسحاب العسكري السوري من لبنان. إضافة إلى ذلك كلّه، لا يمكن تجاهل أن “المستقبل” أضاءت على الثورة السورية وعلى تضحيات المواطنين السوريين منذ العام 2011 من أجل استعادة بعض من كرامتهم في مواجهة حرب يشنها عليهم نظام تدعمه ميليشيات إيران…

لا شكّ أن رئيس التحرير الجديد لـ”المستقبل”، في مرحلة ما بعد 2005، الزميل هاني حمّود، لعب دورا في تعزيز هذا الدور الذي كان دورا مقاوما لكلّ أنواع الوصاية على لبنان قبل أيّ شيء آخر.

بين 2005 و2019، كانت “المستقبل” جريدة مقاومة تعمل على كشف المشروع الإيراني الذي ينفذه “حزب الله” في لبنان. لذلك دخلت تلك الميليشيا الإيرانية مكاتب “المستقبل” في أثناء غزوة بيروت في أيّار – مايو من العام 2008، وهي غزوة ترافقت مع غزوة أخرى للجبل الدرزي بغية تدجين وليد جنبلاط. استهدفت غزوة بيروت إفهام كلّ من يعنيه الأمر أن “حزب الله” وضع يده على المدينة، وأن المدن العربية الكبرى في منطقة المشرق يجب أن تكون تحت سيطرة إيران. هذا ما حدث لبغداد والبصرة والموصل أيضا، ولكلّ مدينة سورية. هذا ما حدث منذ زمن طويل مع مدينة طرابلس اللبنانية التي عمل النظام السوري كلّ ما يستطيع عمله من أجل تقطيع أوصالها، وإخضاعها وتغيير طبيعة تركيبتها الاجتماعية.

هل انتهت بيروت كي تنتهي “المستقبل”؟ الأكيد أن بيروت ما زالت تقاوم وإنْ بصعوبة. لكنّ إحدى المشاكل المطروحة تكمن في غياب الاهتمام العربي بلبنان وبالإعلام اللبناني بالذات في وقت ما زالت إيران تستثمر في هذا الإعلام. هل مطلوب إخلاء الساحة اللبنانية لإيران في نهاية المطاف؟

قبل “المستقبل”، أغلقت “السفير” ثمّ “الأنوار”. من سيبقى في الساحة الإعلامية اللبنانية حيث تقلّص حجم عدد صفحات “النهار” التي “ما زالت تناضل” على حدّ تعبير رئيسة التحرير نايلة جبران تويني.

نعم، هناك أزمة إعلام على الصعيد العالمي، لكنّ ذلك لا يعني أن على العرب ترك ساحة لبنان لإيران. هناك في لبنان من لا يزال يقاوم الهيمنة الإيرانية في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها صعبة. ليس إغلاق “المستقبل” سوى نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى تحتاج إلى نوع من الوعي العربي المختلف. بكلام أوضح، هناك حاجة إلى تفهّم أكبر لدور بيروت، ولواقع يتمثّل في أنّ المدينة لم تمت بعد. ليس صحيحا أنّ لبنان سقط عسكريا وسياسيا في يد إيران بشكل كلّي ونهائي. لا يزال هناك في لبنان أشخاص يقاومون ومؤسسات تقاوم. لذلك، لم يكن مسموحا، عربيا، أن تُغلق “المستقبل” أبوابها بعدما كانت حصنا من الحصون الرافضة للوصاية الإيرانية…