قبل أن يعود الرئيس المُكلّف سعد الحريري من زيارته الأخيرة لباريس تلقّى عدد محدود من السياسيّين ومُتعاطي الشأن العام تقريراً يُشير إلى أن اجتماعه فيها مع رئيس “التيّار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل كان مُثمراً، وأن الطريق أمام تأليف الحكومة الجديدة قد فُتحت، كما يُشير إلى اتصال هاتفي أجراه مع الرئيس نبيه برّي أبلغ إليه فيه الخبر السعيد. لكن لمّا فاتح أحد هؤلاء الأخير بالتقرير المُشار إليه نفاه جُملة وتفصيلاً، ثُمّ علّق ضاحكاً أنّ الحريري وصل إلى بيروت قبل منتصف ليل الأحد الماضي بقليل وأن أي اتصال بينهما لم يجرَ. وقد حصل ذلك يوم الإثنين وقبل انقضاء 24 ساعة على العودة. طبعاً عرف برّي لاحقاً ومع اللبنانيّين كلّهم عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أن رحلة باريس كانت فاشلة من زاويتين. الأولى عدم التوصّل إلى حلٍّ للعقد التي تعوق تأليف الحكومة رغم الآمال التي أثارها في نفوس الناس الرئيس الحريري بتصريحاته المُتفائلة قبل مغادرته إلى باريس، وخصوصاً بعد الاجتماع الذي عقده في عين التينة مع الرئيس نبيه برّي والذي أبلغ إليه فيه أن حسم الموضوع الحكومي سيتمّ خلال أيّام أي بعد زيارة “عائليّة” قصيرة إلى باريس. وقد نقل الثاني هذه الأجواء إلى الإعلام المُرابط عنده ولكن على لسان الأوّل. والثانية إبلاغ فرنسا الرئيس إيمانويل ماكرون له، سواء في اجتماع غير مُعلن مع مسؤول كبير فيها، أو بوسائل أخرى، استياءها من عجزه وعجز لبنان عن تأليف حكومة رغم مرور نيّف وثمانية أشهر على تكليفه، واقتناعها بأنّ استمرار هذا الواقع الحكومي المأزوم سيؤثّر سلباً وعلى نحو قاطع على التزامات مؤتمر “سيدر” الذي استضافته باريس قبل الانتخابات النيابيّة.

 

لماذا فشلت اجتماعات باريس بين الحريري وباسيل، وهل كان لاجتماع الأوّل برئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في أحدها علاقة مباشرة بمباحثات المسؤولين المذكوريْن؟

 

تُفيد المعلومات والمعطيات المتوافرة عند مُتابعين جديّين ومُطّلعين أن الحريري وباسيل عقدا أكثر من اجتماع وأن رجل أعمال لبنانيّاً من أصل غير لبناني وشخصاً آخر غير سياسي من عائلة شماليّة حضرا الاجتماعات. ويدفع ذلك إلى التساؤل عن أسباب مشاركتهما أو حضورهما، علماً أن شقيقاً للشخص الشمالي المُشار إليه حضر بدوره الاجتماع الذي عُقِد مع جعجع. وتُفيد المعلومات أيضاً أن باسيل مارس في اجتماعات باريس اللّعبة التي مارسها مرّتين في السابق وأدّت إلى تعطيل تأليف الحكومة. فهو من جهة طمأن مُحاوره أنّه سيحلّ له عقدة “اللقاء التشاوري” السُني، لكنّه طلب في المقابل البحث في الحقائب التي كان تمّ الاتفاق عليها من زمان. وبدا من كلامه أنّه يرمي إلى تبديل حقائب “الحزب التقدّمي الاشتراكي” والزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط أو بالأحرى حقيبَتَيْه الصناعة والبيئة. كما ألمح إلى تمسّكه بالثلث الوزاري المُعطِّل أو الضامن لا فرق. واقترح إعطاءهما حقيبة الإعلام مغرياً إياهما بأن ميزانيّتها تُراوح بين 30 و36 مليار ليرة في حين أن ميزانيّة البيئة لا تتجاوز المليارات الستّة. فهل كان ذلك إغراء ومحاولة إقناع بأن الإعلام وزارة “مُدهنة” يمكن الإفادة منها؟

 

لا أحد يعرف. طبعاً لا يجزم أحد أن باسيل اقترح التوسّع في تبديل الحقائب بحيث تشمل الحصّة الوزاريّة لـ”القوّات” وللمردة، لكن ما يمكن الجزم به أن الحريري لا يُقدم على أمر كهذا لأنّه يعرف تماماً أنّ ذلك يقضي على آماله في تأليف حكومة ويرمي البلاد في مأزق بالغ الخطورة.

 

هل فشل اجتماعات باريس تسبّب به تبديل الحقائب أم تمثيل “اللقاء التشاوري”؟ الإثنان معاً يُجيب المُتابعون الجديّون والمُطّلعون أنفسهم. فـ”حزب الله” و”الثنائيّة الشيعيّة التي هو جزء منها مُصرّان على تمثيل التشاوري” بالطريقة التي اتّفق عليها قبل أسابيع أي بواسطة شخصيّة من الأربع التي اختارها نوّابه الستّة، ثّم تقلّص العدد إلى ثلاث بعد فشل توزير جواد عدره للأسباب المعروفة. والشخصيّة الأوفر حظّاً من الثلاث هي عثمان مجذوب الذي سمّاه نائب طرابلس فيصل كرامي. والسبب هو ارتياح “الحزب” إلى العلاقة التي قامت من زمان مع وارث الزعامة الكراميّة، الذي تمّ التعبير عنه بالتنازل عن وزير شيعي لتأمين مقعد له في حكومة سابقة. وهو أيضاً اعترافه بالجميل وعدم انتهاجه سياسة لبنانيّة أو حتّى إقليميّة مُتخبّطة أو مزدوجة يعتبرها “الحزب” مؤذية. ولا يعني ذلك أن لا ثقة له في الشخصيّتين الأخريَيْن أو أنّه هو الذي يختار من يُمثّل حلفاءه من السُنّة، إذ أنّه سيترك الأمر لهم في نهاية المطاف. أمّا التمثيل الدرزي الجنبلاطي فبدا لأصحابه أنّ هناك محاولة لاستهدافه أو أنّ هناك استضعافاً له لأسباب عدّة داخليّة وإقليميّة ولذلك جرت محاولة “الدقّ” به. لكن الذين على اتّصال مع “الثنائيّة الشيعيّة” من دروز وغير دروز تحرّكوا لافتين إلى خطورة هذا الأمر. ويبدو أن الرئيس برّي وشريكه “حزب الله” وعيا هذه الحقيقة، لكن حلّها أو استبعادها لم يحصل حتّى الآن. إلّا أن ما لفت النظر هو أن السيّد حسن نصرالله الأمين العام لـ”الحزب” أكّد في ظهوره التلفزيوني الأخير بعد شهرين ونصف من الصمت وجود عقدتين، وقد تمّ تفصيلهما أعلاه. فهل يعني ذلك إعطاءه ضوءاً أخضر لاستهداف جنبلاط بعد تسليم المجتمع بتوزير “التشاوري” أو من يُمثِّله. علماً أن ذلك سيُضاعف خيبة الجنبلاطيّين ولا سيّما بعدما تنازلوا إكراماً للحلّ والتسوية عن وزير ثالث هو حقٌّ لهم في نظرهم أكثر ممّا هو حقٌّ للأمير طلال أرسلان حليف “الحزب”. وهل يعني أيضاً تزكية العقد بإضافة واحدة جديدة لم تكن متوقّعة؟

 

ماذا سيفعل الرئيس المُكلّف بعد فشل آخر محاولاته لتأليف الحكومة؟