هناك مَن يضحك على الناس عندما يصوِّر لهم أنّ أزمة الحكومة هي أزمة حسابات صغيرة وحقائب وزارية وأسماء وزراء، والمثير هو أنّ كثيرين يصدِّقون. ومن النماذج، مثلاً، أنّ هناك 6 نواب، يحملون لافتة «اللقاء التشاوري»، يصدِّقون أنهم هم الذين يتحكّمون بأزمة تأليف الحكومة، ويعتقدون أنّ البلد لا يطلع فيه الصباح إلّا إذا صاح ديكُهم!
 

لماذا يصرّ المعنيون جميعاً على القول إنّ عقدة التأليف تكمن في التفاصيل الحسابية الداخلية؟

الأرجح، لأنّ أيّاً منهم ليس مستعداً للاعتراف بحقيقة الأمور، وهي أنّ قراره ليس في يده، بل هو في أمكنة أخرى خارج الحدود… شرقاً وغرباً!

مأزق الحكومة الحقيقي يكمن في أنّ البلد واقعٌ بين جبهتين: المحور الأميركي - السعودي الذي يرفض تأليف حكومة يتحكّم «حزب الله» بقرارها، بعدما بات يتحكّم بالقرار في المجلس النيابي. والمحور الإيراني الذي يرفض تشكيل الحكومة إلّا إذا كرّسَت الانتصار المحقَّق في الانتخابات النيابية الأخيرة. وبين المحورين يدور اللاعبون المحليون حول تفاصيل سخيفة، ويناورون بطرح عناوين وتفاصيل لا علاقة لها بعمق المشكلة، لئلّا يُقال إنهم يلتزمون توجهات خارجية.

ويبقى الملف الحكومي في حال مراوحة، لأنّ أياً من المحورين المتنازعين غير مؤهَّل حالياً لحسم المعركة لمصلحته. فالظروف الداخلية، دستورياً وسياسياً وأمنياً، تسمح لكل من المحورين أن يقول «لا» لتأليف الحكومة إلى أجل غير مسمّى. ولكنه لا يستطيع أن يفرض على المحور الآخر أن يقول «نعم».

وفي التفاصيل، لا 7 أيار واردة حالياً ولا إجبار الحريري على الاعتذار. وفي المقابل، لا يستطيع الحريري أن يعلن حكومة لا يرضى عنها «الحزب»، ولو انتظر سنوات. وبينهما، يحاول رئيس الجمهورية أن يستفيد من الهوامش المتاحة ليوسِّع دائرة الحركة ويضمَن المستقبل لفريقه السياسي، فهذه فرصته.
وهكذا، وعلى رغم أجواء التفاؤل «الملغومة» بين الحين والآخر، لا أفق للخروج من المأزق السياسي الداخلي إلّا من خلال 3 حالات هي الآتية:

-1 أن يتمكّن أحد المحورَين من حسم المعركة الإقليمية لمصلحته. وهذا أمر يبدو صعب المنال في المدى المنظور، على رغم الاستعداد الأميركي - الإسرائيلي المُعلن، بدعمٍ من قوى عربية أساسية، لإنهاء التمدّد الإيراني في دول المنطقة. لكن الحسم قد يصبح احتمالاً واقعياً في المدى المتوسط أو البعيد.
-2 أن يتوصّل المحوران المتنازعان إلى صفقة شاملة أو جزئية تتعلق بلبنان وحده أو به وبسوريا والعراق مثلاً. وعلى رغم من كل المؤشرات السلبية، فإنّ هذا الاحتمال وارد إذا وجد الطرفان في لحظة معينة أنّ مصلحتهما تقتضي ذلك.
-3 أن تَدخُل اللعبة معطيات جديدة، ومنها مثلاً التباعد بين روسيا وإيران في سوريا، وانعكاس ذلك على العلاقة بين إيران ونظام الرئيس بشّار الأسد وعلى وضعية «حزب الله» في سوريا ولبنان. ومن المعطيات أيضاً، تنفيذ إسرائيل تهديداتها بتوجيه ضربات عسكرية إلى الداخل اللبناني.

وهنا يجدر التوقف عند التحذيرات المتتالية للبنان الرسمي من مغبّة استمرار انزلاقه في تبنّي نهج «حزب الله»، وأبرزها تلك التي حملها ديفيد هيل أخيراً. ومنذ إثارة ملف الصواريخ الدقيقة في محيط مطار بيروت حتى بروز أزمة الأنفاق، تضطلع فرنسا بدور الوسيط لمنع إسرائيل من استغلال المناخ الدولي والإقليمي المؤاتي، وشنِّ حرب على لبنان لا يمكنه إطلاقاً أن يتحمَّل تبعاتها. والفرنسيون هم الأدرى بالواقع اللبناني الشديد الإحراج اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.

لكن، الأدهى هو السيناريو الذي يتردَّد في بعض الأوساط المتابعة للشأن اللبناني، ومفاده أنّ الضربة الإسرائيلية قد تكون، في لحظة معينة، ضرورة لتحقيق غايات معينة. فلبنان وصل إلى مرحلة من التعثّر والتخبّط والجمود، على كل المستويات، وباتَ يصعب إخراجه منها وتحقيق التغيير المطلوب إلّا بعملية انهيار شامل يُعاد بَعدها بناء كل شيء من الصفر.

وفق هؤلاء، لم يَعُد لبنان قادراً على إدارة شؤونه بالنظام القائم حالياً. وحتى الاستحقاقات الدستورية كالانتخابات الرئاسية والنيابية وتأليف الحكومات لا تتم في مواعيدها، بل تتأخّر أشهراً أو سنوات. وأما الوضع الاقتصادي فهو متعثّر، والوضع المالي يتراجع، والوضع النقدي مدعوم اصطناعياً. والدولة سائبة بلا ضوابط قانونية، وتسيطر على قرارها فئات مسلّحة.

ولذلك، وفق السيناريو الذي يتم تداوله، سيكون مناسباً خلط الأوراق في لبنان وإعادة تركيز الدولة على أسس جديدة، وعقد مؤتمر وطني شامل يرسم هذه الأسس. وربما يكون صعباً إحداث هذا الخلط العنيف للأوراق من دون اهتزاز الوضع سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

وهنا يخشى البعض أن يجري إسقاط لبنان إقتصادياً ومالياً ونقدياً وتعريضه لضغط سياسي وأمني كبير، بحيث يكون سيناريو «الانهيار المدروس» سبيلاً لفرض الحلول الفوقية على لبنان بما يتلاءم والحلول التي يجري تمريرها في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يصبح منطقياً توقُّع قيام إسرائيل بتسديد ضرباتها للبنان في الوقت القاتل.

البعض يطرح أسئلة عن احتمال أن يتم الاتفاق على سيناريو الضربات الإسرائيلية بين قوى إقليمية ودولية عدّة، أي أن تأتي الضربات نتيجة التنسيق بين قوى مختلفة، وضمن أطُر معينة لا تقوم إسرائيل بتجاوزها، فتكون أداة التسخين الضرورية لإنضاج الطبخة وتظهير معطيات سياسية جديدة في لبنان.

وهذا السيناريو «المُرعِب» تخشاه القوى السياسية كافة، في لبنان، ولكنها لا تمتلك القدرة على منع حصوله، إذا توافقت القوى الخارجية عليه في لحظة معينة، لأنها أساساً لا تمتلك القبول أو الممانعة.