القوة المجمدة هي أحدث التقليعات التي تنفخ في شرايين الوهم انتصارات لم تحصل. السخرية المقرونة بالثقة على طريقة "يا جبل ما يهزك ريح"، تكفي لتريح القابعين في القوقعة وتغلق عليهم شبهة الأمان، وهم راضون. لذا لا لزوم لأكثر من تسليم الأرواح والمصير الى صاحب الضحكة الساخرة، والاستكانة الى براعته في تسخيف كل ما يمكن ان يشكل قلقاً يهدد البيئة القائمة، اذ لا حاجة الا لإطلالته بين حين وآخر تمسح أي هواجس محتملة.
 
الاطلالة في هذا المعنى جرعة ضرورية مدروسة مواقيت نفخها في الشرايين. فالمطلوب ترسيخ هذا الإدمان الثابت والتصاعدي والمراد له ان يبقى منيعاً على أي شفاء منه. الظاهر ان لا يقظة مرتقبة في المدى المنظور، بحيث يبقى المعلق على حبال انتظار الحروب والمؤامرات والتفجيرات والاغتيالات ممسوكاً بخوفه وبيقينه ان قاهر هذا الخوف هو من سلّمه الأرواح والمصير، لذا المنقذ من الاستهداف يكمن في استمرار هذا التسليم الكلي وفي الحواجز الممنوع ان تُزال حتى لا تنفتح قوقعة الانعزال ورفض الآخر وكرهه والخوف منه، فيرى المُستهدَف بالجرعات انه أسير كل الأوهام التي تمنحه هذا الشعور بالنشوة والتميز حيث يلعق خوفه ويحسب انه يلعق انتصاره.
 
القوة المجمدة التي لا لزوم لاستخدامها هي الدرع الواقية. فأنت قائم او نائم في اللاحرب واللاسلم، لا فرق ولا أهمية. الحرب والسلم في هذا المعنى يكشفان المستور. لذا ممنوع الوصول الى أيٍّ من الحالتين. المسموح بأن تبقى مؤمناً ومأخوذا بمقدّس يراه الآخر مجرماً. وليس أي آخر. هو القريب منك. هو الشريك الذي لا بد منه. تتعذب انت كما يتعذب هو. تكرهه وتمضي معه في مسيرة مبنية على الحذر والامساك بالقناع تخفي به الكلام او تخنقه، فلا تقول ولا تسمح له بأن يقول. لا ترغب بأن تسمع. لعلك تخاف ان تسمع. تخاف كل ما يهدد الجرعة المنتظرة. تتحرق اليها ولا تجرؤ على السؤال عن موعد نفخها في الشرايين. وكما كل المدمنين، ترفض الاعتراف بأن أمان الجرعة أهم بالنسبة إليك من أمان المعرفة والانفتاح والسؤال والمحاسبة. تكتفي بالاتكاء على البراعة الإعلامية تنسج عالمك. ولا تفكر في استراق نظرك الى موقع قدميك. هل تمشي على الرمل او التراب او الماء او النار؟ اين هو موقع قدمك؟ هل تطير في الهواء؟
 
الجواب لا يقدّم او يؤخر. الأفضل التمترس في اللاجواب. فلتعش كل يوم بيومه. ينحصر اهتمامك في تأمين احتياجاتك كفاف يومك. والباقي تتكل فيه على الوعود الصادقة.
فلتعش خارج الأرض والحدود، ففي النشوة تنسى انك حامل هوية. تجهل ان هويتك سقطت من محفظتك، او انك اسقطتها وتخليت عنها، ليس لأنك لا تريدها، وليس لأنها لا تريدك. لكن لأن النفخ التصاعدي في الشرايين يفعل فعله. النفايات لا تهم الا اذا صارت تحت سريرك. والكهرباء لا تهم الا اذا انعدم المولِّد، والماء لا يهم ما دام التيمم متاحاً شرعاً. والتعليم لا يهم ما دام هناك من يدفع رواتب تمنح الحد الأدنى لحياة لا طموح لها ولا غد لها.
 
ماذا اذا انقطعت هذه الرواتب؟ ماذا اذا انقلبت المعادلات؟ الاحتمال مرفوض من أساسه. جمود وخمود في اليقين. ومتعة الكسل الفكري للاكتفاء ببغائية ترمي اللوم على الآخر. وهو ليس العدو الخائف من الظهور الإعلامي ومفاعيله التي تفوق المعارك بتسجيل الانتصارات الوهمية، فقد تم القضاء على هذا العدو. والمقابلة التلفزيونية الأخيرة افهمته ان أي مغامرة يقدم عليها ستذيب الجليد عن القوة المجمدة وصواريخها، فخاف وانكفأ ولعله سيسلّم سلاحه الى قوات حفظ السلام على الجانب الآخر من الحدود ويعلن التوبة ويطلب السماح.
 
العدو الفعلي هو الآخر المسؤول عن الفجوة المتعمقة أكثر فأكثر بين الشركاء. يستفزه لتكتمل أضلع المواجهة المفخخة بالكراهية والحقد. يحمّله مسؤولية كل البلاء الذي يقضي على الكيان ويغفل مدى شراكته وتواطئه واستفادته من انهيار الكيان.
 
وانت لا تعقل ولا ترعوي. تنتظر الجرعة. مجرد الانتظار انتصار عليك وعلى الشريك الذي تسير وإياه وتتمنى زواله. ولا تريد ان تتوقف لحظة لتسترق النظر الى موقع قدميك، او ان تعود قليلاً الى الوراء لتبحث عن هويتك التي اسقطتها. لا تريد ان تراودك ادنى رغبة بالتقاطها.
 
فلتبق رافضاً الاعتراف بأن كل ما يحيط بك أفيون مغشوش. المهم ان تبقى في إدمانك. وفي يقينك الذي يختلف اختلافاً جذريا عن يقين الآخر. والاهم ان لا يقين في هذه المتاهة.