علّق مُتابع أميركي عريق وجدّي ومُزمن على مقالتين نشرتهما الأسبوع الماضي وتضمّنتا رأياً لباحث من بلاده مُقيم في موسكو اعتبر أنّ الرئيس الروسي بوتين استراتيجي وليس تكتيّاً. قال: “أنا لا أريد أن أناقش ما إذا كان سيّد الكرملين استراتيجيّاً أو يُنفِّذ استراتيجيا وضعتها إدارته. بل أتحدّث عن ما يعتبره الباحث المُشار إليه إنجازات له في سوريا تُعزِّز “اقتناع” العالم باستراتيجيّة عقله. انطلاقاً من ذلك أسأل: ماذا أنجز بوتين بضمّه شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وبزعزعة استقرار الجانب الشرقي في أوكرانيا، وبالتورّط في انتخاباتنا المتنوّعة؟ لم ينجز شيئاً، وعلى العكس تسبّب لبلاده بعقوبات قاسية. وباصطفافه مع رئيسنا ترامب لم يكتشف بوتين فقط أنّه لم يعد مُفيداً له، بل خسر أي فرصة لتأسيس علاقة عمل جيّدة مع الحزب الديموقراطي الذي يمتلك اليوم الغالبيّة في مجلس النوّاب، وحظّاً جيّداً في السيطرة لاحقاً على الكونغرس بمجلسَيْه ومعهما ربّما البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة. هذا فضلاً عن الضرر البالغ الذي قد يلحقه بالعلاقات الروسيّة – الأميركيّة تقرير المُحقِّق الخاص مولر عن حملة ترامب الانتخابيّة وعن فريقه فيها كما عن مؤسّساته وأفراد عائلته، وفضلاً أيضاً عن العداء والغضب اللّذين تسبّب بهما بوتين في الدوائر الاستخباريّة الأميركيّة المتنوّعة والجهات المعنيّة بالأمن. نعم” أضاف المُتابع الأميركي العريق والجديّ “أراد بوتين خلق روسيا أمبرياليّة لكنّها لا تمتلك الاقتصاد الذي يمكّنه من النجاح في ذلك ولا البنى التحتيّة اللازمة. إلى ذلك أسأل: ماذا أنجز سيّد الكرملين بدعمه الرئيس الأسد وباصطفافه مع إيران؟ الإثنان لا “يحرزان” أن يضع نفسه وبلاده في الرمال المتحرّكة التي يعيشان داخلها. فهل يقف إلى جانب خاسرين؟ بوضوح كُلّي أقول أنّه أخطأ الحساب الاستراتيجي. فخلقُ دولة امبرياليّة أو عُظمى يتمّ بالانضمام إلى دول مُتقدّمة. وفي أي حال أنا أتمنّى له الحظ، لأن العالم يحتاج إلى روسيا مستقرّة لا إلى روسيا مقوِّضة لمؤسّساته وثقافته”.

 

في أي حال لن يُناقش “الموقف هذا النهار” اليوم صحّة آراء الباحث الأميركي المُقيم في موسكو ومواطنه المقيم في واشنطن. علماً أن كلّاً منهما قد يكون مُحقّاً في جوانب معيّنة من آرائه. لكنّه سيُتابع الحديث عن أميركا وتحديداً عن سياستها واستراتيجيّتها في الشرق الأوسط وذلك من خلال مرجع لبناني مُزمن وصاحب معرفة عميقة ليس فقط بقضايا الداخل والمنطقة بل أيضاً بأوضاع واشنطن في اداراتها ودهاليزها. ماذا في جعبته من معطيات قد لا يعرفها اللبنانيّون أو معظمهم، وقد يعرف بعضهم جزءاً منها؟ فيها أن إسرائيل لا تكتفي بخرق السيادة اللبنانيّة برّاً وبحراً وجوّاً، ولا ببناء جدار “يضمّ” عمليّاً أراضٍ مُتنازع عليها بينها وبين لبنان، ولا بعدم الردّ على الشكاوى التي يُقدّمها إلى قوّات الطوارئ الدوليّة العاملة في جنوبه وإلى مجلس الأمن الذي قد يكون فقد صلاحيّته أو دوره تماماً مثل الدولة اللبنانيّة. بل انّها تشنّ غارات على سوريا من أجواء لبنان، وهذا أمرٌ خطير جدّاً لأنّه قد يُشعل حرباً بـ”الغلط” لا يريدها لبنان ومعه “حزب الله”، وكذلك إسرائيل خلافاً لتهديداتها المُتكرّرة فضلاً عن المجتمع الدولي. وفيها أيضاً أن أميركا لم تكن جديّة في مساعدة لبنان على ترسيم حدوده البحريّة مع إسرائيل رغم انتدابها فردريك هوف، وهو شخصيّة مُطّلعة وعارفة وغير مُنحازة وموضوعيّة، للبحث مع كلٍّ منهما في تسوية مقبولة تسمح للأوّل باستغلال ثروته النفطيّة والغازيّة. إذ بعدما توصّل إلى بداية تسوية قبلتها إسرائيل على مضض بإعطاء لبنان 55 في المئة من المنطقة البحريّة المُتنازع عليها والباقي لها، وبعدما أعلم السلطة اللبنانيّة أوّلاً بموافقتها على لبنانيّة 530 كلم من الـ 850 التي طلبها ولاحقاً بإضافتها 120 كلم على الـ 530 استقال فجأة من الخارجيّة والبعض يقول أنه طار بضغط اسرائيلي. ثم أُهمل الموضوع مع خلفه أموس هوكشتاين. وكان لبنان الذي طلب تدخّل أميركا قادراً ربّما بواسطة “اليونيفيل” على حلّ هذا الموضوع. لكن الدولة الأعظم انحازت إلى إسرائيل فتعطّل كل شيء ولا تزال. وعندما حاول دايفيد ساترفيلد إحياء “خط هوف” لكن بعد ربطه بالحدود البريّة رفض لبنان. كما رفض محاولة ديفيد هيل مساعد وزير الخارجيّة حصر البحث في البريّة في زيارته الأخيرة لبيروت. علماً أن هوف هو الذي رسم خطّ الحدود السوريّة – الإسرائيليّة قبل مفاوضات الراحل حافظ الأسد وبيل كلينتون في جنيف الذي حاز على موافقة الأوّل. لكن في الاجتماع فوجئ الأسد بخط جديد فرفضه، وأحبطت واشنطن بضغط من اسرائيل بذلك محاولة جديّة لبداية سلام بين دمشق وتل أبيب.

 

في أي حال الوضع في لبنان خطير جدّاً. فاسرائيل أبلغت رئيس فرنسا ماكرون عبر وفد زارها أخيراً تهديداً جديّاً بشنِّ حرب عليه بعدما أطلعته على خرائط ومعلومات… ولبنان لا يعرف ماذا يفعل وكيف يردّ لأسباب متنوّعة. وفرنسا لم تعد تثق بجدّية لبنان و”حُكّامه” وفي مُقدّمهم الرئيسان عون والحريري. ورئيسها قد لا يزور لبنان على الأرجح. وربّما لن يعود إلى استقبال الحريري إلّا سرّاً. علماً أن ذلك غير أكيد. وقد عبّر عاملون في الإدارة الفرنسيّة عن سخطهم على لبنان أمام صحافيّين منه قبل أيّام قليلة جدّاً.