خطة ديفيد ساترفيلد لترسيم الحدود. زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى عُمان. الدخول الروسي على خطّ المفاوضات غير المباشرة بين إيران وإسرائيل. طموح روسيا لتوسيع دورها في المنطقة، من الجغرافيا السورية باتجاه لبنان، من البوابتين النفطية والحدودية. حضور وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي إلى بيروت، ولقائه بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. إعلان شركة النفط الروسية الكبرى، عن توقيع اتفاق لإدارة مرفأ تخزين المنتجات النفطية في لبنان.

جميع هذه العناوين تصبّ في خانة واحدة، وتشير إلى المنحى الذي تنحوه المنطقة، في ظلال التقدّم الروسي بـ"رعاية" أميركية.

منذ سايكس بيكو

نمط التعقيد المركّب الذي تشهده العلاقات الدولية على ساحة الشرق الأوسط، هو الذي ينتج توافقات وخلافات في الوقت نفسه ما بين الدول. تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى العلاقة التركية الأميركية، والتي تمثّل جليّاً هذا التعقيد المركّب. فهناك تحالف استراتيجي بين واشنطن وأنقرة، لكن أيضاً هناك عشرات الملفات الخلافية الاستراتيجية بينهما. الأمر ذاته يسري كذلك على العلاقة بين الأميركيين والروس، وبين الإيرانيين والأميركيين. وحتى ضمن الخلافات التكتيكية والاستراتيجية بين الأطراف، تبقى التحالفات قائمة. وهذا مشهود تاريخياً، في حالة تبدّل الأحوال و"الأهوال"، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.

فمثلاً، اتفاقية سايكس بيكو، والتي تمثّل إحدى الاتفاقيات الأساسية في تقسيم المنطقة، ظاهرها يشير إلى عمق التحالف الفرنسي البريطاني. لكن المفاوضات للوصول إلى إنجازها شهدت خلافات عديدة فرنسية بريطانية، وبريطانية بريطانية. وهذا يمكن الرجوع إليه في كتابيّ جيمس بار "خط في الرمال" وفواز طرابلسي "سايكس بيكو ما وراء الخرائط". من أبرز الخلافات، التي كانت تظلّل المفاوضات لإنجاز الاتفاقية، كان حول كيفية توزيع مناطق النفوذ، كمطالبة فرنسا بأن تكون سوريا الكبرى كاملة خاضعة لسيطرتها الانتدابية، وفلسطين ضمناً. الأمر الذي عارضه البريطانيون بموجب خطط مسبقة. والأمر يسري أيضاً حول الخلاف على الموصل، ومن سيسيطر عليها فرنسا أم بريطانيا، خصوصاً أنها المنطقة الغنية بالنفط في العراق. وطالب الطرفان بضمها، فقد وافق البريطانيون في بداية المفاوضات على منحها لفرنسا، قبل أن يبرز توجه بريطاني معارض لذلك، وأعاد الموصل إلى النفوذ البريطاني.

مؤتمر وارسو

إذاً، التحالف الاستراتيجي بين الدول، لا تنقضه بعض الخلافات على مناطق النفوذ، وكيفية تقسيمها. وبالتالي، ما هو مشهود اليوم من اختلافات بين بعض الدول، لا يمكن الركون إليه، ولا الرهان عليه، لفراط عقد التفاهم الاستراتيجي.. خصوصاً في أثناء مرحلة تقسيم مناطق النفوذ، وفي ظل الصراع العالمي.

روسيا دخلت إلى سوريا بموجب اتفاق ضمني مع الأميركيين، الراغبين في الانسحاب من المنطقة، بشرط ضمان مصالحهم فيها، والاتجاه نحو المحيط الهادئ لمواجهة الصين. المسعى الأميركي اليوم واضح وصريح. ويبرز في توجهات دونالد ترامب، المهجوس بضرب أوروبا، مقابل تعزيز علاقته بروسيا. ومعروف التنافس الاستراتيجي الأوروبي الروسي. فأوروبا تسعى إلى التحرّر من الحاجة الاستراتيجية للغاز الروسي. وللغاية نفسها، يسعى ترامب في الضغط على إيران لجلبها إلى طاولة المفاوضات، بغية إبرام توافق معها، يضعها في صف واشنطن كقوة إقليمية، ويبعدها عن الصين. الهدف نفسه ينطلق منه ترامب في محاولة لحلّ الأزمة الكورية. وهذا أيضاً يقود واشنطن إلى إصدار تشريعات تفرض عقوبات على النظام السوري، ولجم التطبيع العربي معه، لأن اللحظة لإبرام هذا التوافق لم تحن بعد. وأيضاً، ما يبدو مشهوداً، هو بدء التحول في عنوان مؤتمر وارسو، الذي هدف إلى مواجهة النفوذ الإيراني، إلى النقاش في أزمات غرب آسيا.  

الدور الروسي
كل هذه الحسابات الاستراتيجية، هي التي دفعت ترامب إلى الخلاف مع الأوروبيين. وهي التي أسست للدخول الروسي إلى الشرق الأوسط، وتسلّم زمام الأمور فيه، انطلاقاً من تشييد قاعدة ضخمة على البحر المتوسط. ومن بوابة السيطرة الروسية على سوريا، لا بد أن يتوسع النفوذ الروسي على مختلف دول الجوار، لا سيما في لبنان، وفلسطين، حيث تضطّلع موسكو حالياً بلعب دور تفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين الإيرانيين والإسرائيليين. وهذا الدور الروسي سيتعمّق أكثر في الفترة المقبلة، باتجاه لبنان، والعمل على إيجاد تسوية حدودية بين لبنان وإسرائيل، تمهّد لترسيم الحدود البحرية، وتوفير الأمان حول البلوكات النفطية. وفي النهاية، كل الضغط الممارس في المنطقة بين القوى المتعارضة، لا بد له أن يؤدي إلى توافق شامل، بعد تصعيد كبير، قد يتطور إلى معركة أو قد يبقى في نطاق النزاع السياسي.

تحت سقف هذا الإطار العام، وفي ظل ازدياد منسوب الخلافات حول مناطق النفوذ، يأتي الضغط الإسرائيلي على القوات الإيرانية في سوريا مثلاً. تارة، بغض نظر روسي، وطوراً بمطالبة روسية بوقف هذ العمليات الجوية. وهذا لا يمكن أن يؤدي إلى تضارب استراتيجي روسي إيراني، بل غايته مختلفة، وتهدف إلى الوصول إلى توافق، على تحديد مناطق النفوذ.

حسن نصرالله والوزير العُماني

وهذا لا يمكن فصله عن الحرك الذي تشهده سلطنة عمان منذ أشهر. سواء فيما يخص المفاوضات الأميركية الإيرانية غير المباشرة، أو من خلال زيارة نتنياهو ولقائه السلطان قابوس، وآخر المعلومات حول الزيارة التي أجراها وزير الخارجية العماني إلى بيروت، ولقائه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله (معلومات اعتبرتها مصادر قريبة من الحزب "تخريفة" ولا أساس لها!). وحسب المعطيات، فأن الوزير العماني أبلغ نصرالله رسالة بوجوب التهدئة، وعدم القيام بأي رد فعل على الاستفزازات الإسرائيلية، كي تتطور الأمور إلى حرب مفتوحة. وبالتالي، يندرج ما يحدث في خانة التفاوض بالنار، قبل ترتيب تسوية مقبولة. ولذا، تحرص مختلف القوى على عدم انفلات الأمور، وإبرام توافق يحمي المناطق النفطية والغازية، بعد مفاوضات حامية من دون الانزلاق إلى معركة شاملة.. حتى الآن، على الأقل.

سليماني والصدر في بيروت

وليس صدفة أن يعقد لقاء في بيروت، قبل أيام، بين قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وزعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر، للبحث بشأن الحكومة العراقية. وضمناً، هي رسالة تهدف إيران منها إفهام الجميع في الساحة اللبنانية وخارجها، ارتباط تشكيل الحكومة بلبنان باستكمال تشكيل الحكومة العراقية وبملفات أخرى.

وسط كل هذه الحسابات، يبرز العرب في حالة تشتت وضياع، فهم يريدون استعادة العلاقات مع النظام السوري لإبعاده عن إيران، ويريدون مواجهة تركيا في سوريا وإيران بالوقت ذاته. فتارة يحاولون الاستناد على الروس وطوراً على الأميركيين. بينما يربط الروس بالإيرانيين والأتراك تحالف استراتيجي، سمح لهم بالتحكم بمسار وتحولات المجريات السورية. وهذا قابل للإنسحاب أيضاً على الوضع في لبنان. أما الأميركيون فيشددون الضغط على طهران لإبرام توافق يلائم مصالحهم معها، وليس بما تقتضيه مصلحة العرب. وهذا كلّه لا ينفصل عن الإعلان الروسي حول إدارة مرفأ لتخزين منتجات النفط في طرابلس. وما يعنيه ذلك من استعداد الروس للعب دور الضامن لهذا الملف في شمال لبنان أو في جنوبه.