تجمع تقارير ديبلوماسية وعسكرية على أنّ الأزمة السورية تعيش مرحلة دقيقة جداً تهدد بعض التحالفات التي غيّرت وجه الحرب لمصلحة النظام السوري. فعلى وقع الكماشة الأميركية ـ الإسرائيلية المتحكمة بجنوب سوريا وشمالها، اهتزّ التحالف بين موسكو وأنقرة على وقع تقارير أخرى تتحدث عن اقتراب موعد انتهاء «شهر العسل» بين موسكو وطهران، فما هي المؤشرات والدلائل ومدى جديتها؟
 

لم تتفرّغ الأجهزة الديبلوماسية والعسكرية الغربية والعربية لمراقبة التطورات على الساحة السورية يوماً في الشكل القائم منذ نهاية العام الماضي ومطلع السنة الجديدة. فالتقارير المفصّلة تتحدث عن تشكيل مجموعات مراقبة في اكثر من دولة لرصد التحركات الأميركية عقب قرار الرئيس دونالد ترامب في 19 كانون الأول الماضي بسحب القوات الأميركية من شمال البلاد عند مثلث الحدود السورية ـ التركية ـ العراقية وعند مثلث الحدود السورية ـ الأردنية ـ العراقية، وما يمكن ان يتركه الفراغ المتوقع عند انسحابها، ولمَن ستسمح الولايات المتحدة بملئه وردّات الفعل المتوقعة.

ولذلك، لا يمكن لمراقبي الأحداث على الساحة السورية والمنطقة إلّا الربط المنطقي والواقعي بين الحديث عن الإنسحاب الأميركي واستعادة الإسرائيليين المبادرة في قصف العمق السوري، بعد توقف أعقب إسقاط الطائرة الروسية قبالة «قاعدة حميميم» في ايلول الماضي، خصوصاً انّ اسرائيل تركز في غاراتها الجوية الجديدة على المواقع التي تقول انها قواعد لـ«الخبراء والمستشارين» الإيرانيين و«قوات الحرس الثوري الإيراني» وحلفائها من «حزب الله» والتنظيمات الأخرى جنوب دمشق وفي محيطها ومطاراتها، في منطقة تشكّل البعد الحيوي للجولان المحتلّ بعمق كان تم الإتفاق على إخلائه بما يزيد على 85 كيلومتراً، وهو ما لم ينفّذ على رغم تعهدات موسكو الضمنية عند تحديد «المناطق الآمنة» في الجنوب السوري وقبل ان تسمح إسرائيل لقوات النظام بوضع يدها على الحدود السورية ـ الأردنية ومعابرها ضماناً لمنع الفوضى التي كانت سائدة في المنطقة.

وعلى قاعدة عدم القدرة على الفصل بين السيناريوهات المعتمدة أميركيّاً واسرائيلياً على خلفية استهدافهما للنفوذ الإيراني في سوريا بغية تقليصه وتحجيمه، تبنى النظريات الأخرى في قراءة المواقف انطلاقاً من الحراك الذي يشغل أنقرة وطهران وموسكو في هذه المرحلة بالذات.

فهي بثلاثيتها الدول الراعية لـ«مسار أستانة»، وهي التي تقود المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية ودول الحلف الدولي التي كانت تدافع عن «مسار جنيف» قبل ان تتراجع تدريجاً عنه وتقبل بالأمر الواقع الذي فرضه التحالف الثلاثي الروسي ـ الإيراني ـ التركي، الذي نجح الى حد بعيد في إعادة النظام شكلياً الى عدد من المناطق التي أخلتها «داعش»وأخواتها.

وعلى هامش التطورات التي فرضها القرار الأميركي الذي فتح جدلاً عميقاً بين حلفاء واشنطن وما بين خصومها بمقدار أكبر، ترصد المراجع الديبلوماسية والعسكرية ما يمكن تسميته «بدايات تفكّك» الحلف الثلاثي المواجه لواشنطن في سوريا على وقع القرارات الأميركية الأخيرة والهجمة الإسرائيلية. فروسيا التي دعت جهاراً كل من يعنيه الأمر الى تسليم المناطق التي تخليها القوات الأميركية الى قوات النظام السوري، تختلف مع تركيا جذريّاً في مواقفها. فتركيا تصرّ على ان تكون البديل الشرعي في الشمال السوري ضماناً لأمنها القومي المُعترف به لدى جميع الأطراف، بمَن فيهم موسكو.

وعلى عكس ما هو قائم في الشمال السوري، لم يظهر انّ هناك اي قوة بديلة بعد يمكن أن تملأ الفراغ الأميركي في الجنوب الشرقي من سوريا. فإذا سحبت واشنطن قواتها من «قاعدة التنف» ومحيطها الممتد بعمق 55 كيلومتراً من مثلث الحدود السورية ـ الأردنية ـ العراقية، فإنّ طهران تنتظر انفراجاً يفتح أمامها اوتوستراد بغداد ـ دمشق ـ بيروت. لكن هذا يبدو مستحيلاً، ولم تجد طهران من ينصرها فيه.

علماً انّ القوة الأميركية تتجاوز حدود منطقة التنف في المجال الجوي الذي فرضته، ويوسّع المنطقة المحظورة على طهران وحلفائها والنظام السوري الى عمق يقترب من 250 كيلومتراً شمالاً، لتشمل المعابر العراقية ـ السورية في البوكمال ومحيطها، وتلك التي تقترب من سيطرة مواقعها الشمالية في الحسكة والقامشلي لضبط الحدود العراقية ـ السورية بكاملها.

وعلى هذه الخلفيات يمكن فهم القمة الروسية ـ التركية التي عقدت قبل يومين في موسكو لتقليص الخلافات بينهما في شأن المنطقة الآمنة وحدود التوغل التركي في منطقة غرب الفرات بلا أي اتفاق، بعدما أكدت انقرة انها قادرة على هذه المهمة بمفردها، ولا تريد اي شريك سوري او ايراني او روسي للسيطرة على المنطقة، متعهّدة بالقضاء على الإرهاب فيها في خلال شهر.

وكل هذا يحصل على وقع التحضيرات الجارية لقمة ثلاثية جديدة تجمعهما مع طهران لم يحدد موعدها بعد، في انتظار جلاء بعض التفاهمات التي اهتزّت بين طهران وموسكو عقب تبادل الإتهامات الضمنية وفي الكواليس الديبلوماسية في ما بينهما حول دورهما في سوريا وحجم وجودهما في حلف واحد.

ومن هذه الزاوية بالذات تبرز التقارير الديبلوماسية التي تتحدث عن أن العلاقات الروسية ـ الإيرانية اهتزت بقوة في ضوء الضربات الإسرائيلية المتجددة على المواقع الإيرانية وحلفائها في الجنوب السوري.

وليس أدلّ الى ذلك من إعلان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف: «أنّ روسيا ليست حليفة إيران في سوريا». وإنما «يعمل الطرفان معاً في إطار محادثات أستانا حول سوريا». وزاد في الطين بلة تأكيده «أنّ أمن إسرائيل هو أحد أولويات موسكو في المنطقة».

وأضاف جازماً: «الإسرائيليون يعلمون ذلك وواشنطن تعلم ذلك، والإيرانيون أنفسهم يعلمون ذلك، إضافة الى الأتراك والسوريين». مُنتهياً الى القول: «أمن إسرائيل هو أولوية لروسيا». وإن لم يكن ذلك كافياً فقد اكد المسؤول الروسي لشبكة «سي. إن. إن» الأميركية: «انّ موسكو لا تتفق مع إيران في أجندتها المعادية لإسرائيل».

وعليه، لا تلتقي موسكو وطهران سوى على انتقاد إسرائيل بتمايز لافت. فبين تأكيدات روسيا انتقاداتها تل أبيب بسبب ضرباتها في سوريا، تعترض طهران وتطلب توضيحاً روسياً انطلاقاً من شعورها بعدم تضامن موسكو معها في خلال استهداف مواقعها على الأراضي السورية، وصولاً الى ما وَجّهه أحد مسؤوليها الكبار أمس حول «السبب الذي يجعل روسيا توقِف عمل راداراتها وشبكات صواريخها الحامية للأراضي السورية عن العمل أثناء الغارات الإسرائيلية».

وتنتهي المراجع الديبلوماسية والعسكرية الى انه من السابق لأوانه القول انّ «الدف إنفخَت» بين موسكو وطهران. فإيران مقتنعة بالخصوصيات في العلاقات بين موسكو وتل ابيب، لكنها في الوقت عينه تصرّ على القول: «انّ صمود الرئيس السوري بشار الأسد ليس بفضل القوات الروسية وحدها، فلإيران دور لا يعترف به أحد حتى اليوم».