ثلاثة مواقف لبنانية، فرّغت زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية، ديفيد هيل، إلى لبنان، من مضمونها. إصرار الرئيس سعد الحريري على تشكيل حكومة مع حزب الله، ومنحه وزارة الصحة، واستقباله السفير الإيراني في اليوم التالي، وتأكيد تعزيز العلاقات الثنائية بين لبنان وإيران. هذا هو الموقف الأول.

كلام الوزير جبران باسيل في القمّة الاقتصادية لبيروت، حول المشاركة في إعادة إعمار سوريا، وإعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وعودته إلى الجامعة العربية، وملف اللاجئين السوريين. مواقف اتخذها باسيل وتعارض كلياً ما طرحه هيل في لقاءاته اللبنانية. وهذا هو الموقف الثاني.

أما الموقف الثالث فجاء على لسان رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، الذي اعتبر أنه لا يمكن الرهان على الأميركيين، الذين دمروا سوريا ولم يدعموا المعارضة.

وإلى هذه المواقف الثلاثة، ثمة موقف رابع بقي طي الكتمان، هو ما بحثه هيل مع الرئيس نبيه برّي، حول مسألة ترسيم الحدود البرية والبحرية، وإصرار برّي على معارضة الطروحات الأميركية.

إذاً، مثّلت هذه المواقف الأربعة ما يشبه انقلاباً لبنانياً على الإرادة الأميركية. وهذا يعني أن لبنان سيكون بحاجة إلى مظلّة تقيه شرور التطورات، لا سيما في ضوء تخوّف بعض القيادات من استعادة النظام السوري لأنفاسه. وهو تخوف يقارب "الرهاب" من كابوس عودة النفوذ السوري إلى لبنان. ويعرف هؤلاء أن ما يقيهم الشرور السورية، لن تكون واشنطن، ولا أي طرف يدّعي العدائية تجاه النظام. الحاجة ستكون إما لموسكو أو لطهران. أما حاجة الآخرين في تبرير عدم التطبيع حالياً، فستكون مستندة إلى قوى لا توافق على التطبيع حتى الآن، ومختبئة خلفها، كتركيا وقطر.

بانتظار الخرق

في حالة الخوف هذه، يبرز الضياع السياسي في لبنان، والذي يحاول البعض الالتفاف عليه، عبر إحياء مفاوضات تشكيل الحكومة، وهي التي أُرفدت بمواقف تصعيدية من قبل رئيس الجمهورية، كما من شخصيات محسوبة على النظام السوري، كمطلب فرض مهلة زمنية أمام تشكيل الحكومة، وإلا الذهاب إلى مجلس النواب، وقلب الطاولة إذا ما اقتضى الأمر.

يقرأ هؤلاء "الخائفون" الرسائل جيداً، ويعرفون أنها آتية من وراء الحدود. ولذلك يتحتم الآن بذل الجهد في سبيل التشكيل سريعاً. إنما هناك وجهة نظر ثابتة لدى البعض، بأن الوقت لم يحن لتشكيل الحكومة. وما يجري يأتي في سياق سدّ الفراغ وتعبئة الوقت والاستثمار فيه، لأن إيران غير مستعدة لتقديم أي ورقة من الاوراق التي تمتلكها، قبل حصول خرق في العلاقة بينها وبين واشنطن. وبمجرد أن تتشكل الحكومة في لبنان، يجب البحث عن الخرق الذي تحقق إيرانياً وأميركياً. لكن كل شيء يبقى ممكناً.

فحوى الرسائل
يتلقى جنبلاط والحريري، وبرّي ضمناً، رسائل سورية واضحة. الأول، تصله عبر عملية اختراق البيئة الدرزية، بإعادة تجميع خصومه وتعويمهم وتدبيج خطابهم. الثاني، تصله في توالي الاشتراطات والعقبات التي يتعرّض لها في عملية تشكيل الحكومة، والضغط الممارس عليه لإبقائه طيّعاً، ودفعه لتقديم التنازلات المطلوبة. أما الثالث، فقد وصلته رسائل متعددة، دفعته إلى تبني مواقف متشددة، سواء في مسألة القمّة، أو في التعديل الذي طرأ على موقفه الحكومي. فبعدما كان يرفض الحصول على وزارة الصناعة المخصصة للحزب التقدمي الإشتراكي، تحت عنوان رفعه أمام الحريري: " لا تدخلوا بيني وبين وليد جنبلاط"، عاد برّي فجأة ليطالب بالصناعة بدلاً من البيئة. وهذا لا يعني سوى الاصطدام بجنبلاط، الذي لا يوافق على التنازل عن هذه الحقيبة. وقد يكون هذا الاختلاف المستجد عبارة عن تجاوب رئيس المجلس مع الرسائل السورية، أي أن يتواجه مع جنبلاط ولو شكلياً.