في نهاية الحرب العراقية الإيرانية، أعلن مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران روح الله الخميني "تجرّع كأس السمّ"، لما اعتبره هزيمة للأهداف الإيرانية، التي سعت إلى تحقيقها في تلك الحرب. إذ كان يومها منطق تصدير الثورة يحكم الرؤية الإيرانية للشرق الأوسط. "تجرّع كأس السمّ"، أفضى إلى إصرار إيراني على تحقيق مشروع إيران الكبرى. أي بالتحول إلى قوّة إقليمية عبر استراتيجية اختراق المجتمعات الأهلية العربية. ارتكز المشروع على أيديولوجيا جهادية، وبرنامج سياسي تعبوي، يهدف إلى استثارة مشاعر الشعوب ومخاطبة ما يختلجها.. وصولاً إلى الاستثمار في تحالفات مع الجماعات المحلية داخل كل دولة (مالاً وسلاحاً ومؤسسات دينية وخيرية وأندية وجمعيات..) ما عزز القبضة الإيرانية في المنطقة العربية.

مشروع هنا.. وهم هناك 

مسار طويل من الحروب والصراعات والعقوبات، أوصلت إيران إلى إعلان السيطرة على أربع عواصم عربية، هي: بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء. اتّبع الإيرانيون شعار "المستضعفين والمحرومين"، وهو الذي ألّب طوائف وأتباع مذاهب وجماعات، عانت تاريخياً من التمييز أو الحرمان أو التهميش والاستضعاف داخل دولها الوطنية، فوجدت في خطاب الثورة الإيرانية ومددها الأيديولوجي والمادي عوناً لها للتمرد أو الخروج على السلطات الحاكمة. هكذا، وجدت الدعوة الإيرانية حماسة لدى شعوب وقبائل وملل فاستقطبها، بعيداً عن ما نعرفه من ممارسة السياسة بمعناها التقليدي والإجرائي، بل بعيداً حتى عن المشترك الثقافي وأساليب العيش المنبثقة من التاريخ الوطني المشترك والمتنوع.

هو ذا الانقسام "السياسي" السائد اليوم في المنطقة العربية، وانتهى إلى شكله الحالي، الذي يصفه بعض العرب أنه "صراع"، أو مواجهة عربية - إيرانية. نحن هنا أمام مشروع إيراني قائم على وعي المظلومية، ويستثمر في "المحرومين"، ويجعلهم جنوداً على طريق الجنّة. وكل هذا مرفق بمشروع سياسي دولتي يستثمر في الواقع، ويبسط سيطرته على الميدان. وفي المقابل نجد مشروعاً آخر قائماً على الأحلام والأوهام وربما المخيلة السينمائية لا أكثر. أوهام الظّن باختراق التحصينات الإيرانية في تلك العواصم، التي يسعى الحالمون إلى استعادتها وطرد إيران منها، هكذا بلا جهد ولا دراية ولا مشروع سياسي.

دبلوماسية سياحية

مقابل كأس السمّ الذي تجرّعه الخميني سنة 1988، ثمة من يرتشف فناجين القهوة. الإفراط في القهوة قد ينتج عنه الأرق وأحلام يقظة شعرية، لا السياسة ولا مشاريع المواجهة.

على هذا النحو، تبدو بعض "اللقاءات" الدبلوماسية في ربوع لبنان، متناسلة تماماً من الأحلام والأوهام، مغرقة في ترف الغياب عن الواقع، خصوصاً عند يكون تناول ذلك الفنجان على قمة كفرذبيان، المكسوّة بثلوج الرفاهية السياحية، أو في أحد فنادق برمانا الفخمة.. بعيداً عن الحارات والشوارع والساحات التي تنبض بالناس. المشروع السياسي يختلف عن "المساعدة التنموية"، التي يهلل لها البعض في تدشين خزّان مياه، أو في توزيع بطانيات على مهجّرين قسراً، من دون البحث أو تناول الأسباب الحقيقية لتهجيرهم.

وللمصادفة، أنه في أعقاب الفنجان الرابع للقهوة، تستمر إيران في سيطرتها على لبنان والدول المحيطة به، إذ تمسك ولا تسلم أي "ورقة" في اليمن أو العراق أو سوريا، بالإضافة إلى تشددها في فرض الشروط الحكومية على الرئيس سعد الحريري: الحكومة التي ستبصر النور في لبنان، ستكون بنكهة الزعفران.

وللمصادفة أيضاً، أنه مع فنجان قهوة واحد، كان حزب الله يستعدّ للسيطرة على الحياة السياسية في لبنان، عبر تحقيقه لأكثرية نيابية ساحقة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وما بينهما، كانت رحلة طنطورة الثقافية، التي توضح مدى الحضور السياسي العربي في لبنان، فيما كان حزب الله يتحرك ذهاباً وإياباً ما بين دمشق وبيروت، وعلى طول الحدود، في عمليات نقل الأسلحة وتعزيز ترسانته العسكرية.

المفارقة أن من تجرّع كأس السمّ، يدعي حرصاً على التوافق والوحدة، ومن يرتشف القهوة، يدّعي التسبب بإقلاق الحزب وضياعه، والتهليل للفتح العربي للمناطق اللبنانية السياحية!

لبنان والتوازن

تربط الدولة الإيرانية وحرسها الثوري طهران ببغداد ودمشق وبيروت، والحدود مقفلة أمام الآخرين. وإذا ما سئل العربّي اليوم عن مشروعه السياسي أو رؤيته، يكاد يغيب عن الوعي، لشدة انعدام الوضوح وتشتت الأفكار. فلا هو قادر على الإقتناع بالعروبة لمواجهة "المدّ الفارسي"، في ظل الانفتاح على إسرائيل، ولا هو قادر الاعتداد بالهوية السنّية لمواجهة الشيعية، لأن الهزيمة ستكون منكرة، وتصب في صالح إسرائيل، المهجوسة بتحالف الأقليات، الذي اتضحت معالمه في سوريا.

قام لبنان في بداية تبلور فكرة تكوينه، على ثنائية درزية مارونية، جاهدت ضد السلطنة العثمانية، وبدأت التأسيس لمفهوم لبنان الكبير، إثر إرساء استقلال جبل لبنان. وبعد ولادة لبنان الكبير، استمرّت الثنائية المارونية - السنّية مع أرجحية للطرف الأول، إلى أن اختل التوازن تماماً قبل سنوات من الحرب الأهلية، التي كانت تعبيراً عن الانفجار الاجتماعي والسياسي. ثم أتى اتفاق الطائف، معيداً تأسيس ثلاثية ضمن الثنائية، وتعزيز الحضور السنّي على حساب الحضور المسيحي، مقابل ظفر الشيعة ببعض المكتسبات، التي أصبحت اليوم ضيقة جداً على الجسم والدور الشيعيين. ليختلّ التوازن نهائياً، منذ العام 2005 إلى اليوم.

الميزان راجح لصالح الشيعية السياسية، تليها المارونية السياسية، التي تستعيد بعضاً من أدوارها، بالاستناد إلى العلاقة مع الطرف الأقوى، وهو حزب الله. فيما السنّة وجدوا أنفسهم مضطرّين على الاستلحاق بالطرفين آنفي الذكر، للبقاء في المشهد "الرسمي"، وإن كان ذلك من دون أي دور أو فعالية.

في الخروج من الإحباط

غالباً من يقود الترف إلى الإنحدار، وهو ما ضرب السنّة، في مختلف جوانبهم السياسية والثقافية. فانحدر مستوى ممثليهم، من عروبيين رحبي الأفق والنظر ومفكرين وطنيين وساسة من طراز رجالات الدولة، إلى وجهاء محليين، مهجوسين بحسابات الزواريب والحارات وأهل المحلة والجيرة، من بيروت إلى طرابلس، يبحثون عن الظفر بـ"سيلفي" أو بـ"علاقات عامة" تقوم على النفاق الإجتماعي. هذا ما دفع السنّة إلى الشعور بالإحباط. ليس الإحباط السياسي فقط، بل الرمزي، المتمثل بعدم التكافؤ ما بين "الزعيم" وطموحات الرعية. وهذا ما كان مشهوداً، في الأيام القليلة الماضية، في سقطات بعض نزلاء الندوة النيابية من أعضاء كتلة "تيار المستقبل"، التي انحدر مستوى تمثيلها.

واختلال لبنان من اختلال توازناته، التي تبدأ بالثقافة قبل السياسة. إعادة التوازن لا تحتاج إلى السم ولا إلى القهوة.. بل إلى مشروع رؤيوي ثقافي وسياسي، مفارق لما هو سائد منذ أربع عشرة سنة إلى اليوم.