إنَّ الحديث حول السيّدة الزهراء (عليها السلام) لهو حديث عن الأنموذج الرسالي بالنسبة إلى المرأة، فلم يكن لقب سيدة نساء العالمين شرفيًّا بالنسبة إليها، بل كان لقبًا ولد من رحم ما امتازت به هذه الشخصية التي مثّلت الجانب الحركي والرسالي والإيماني والفكري بصبغة إسلامية.

قد تُطمس هذه الشخصية عبر الزمن، عندما لا تجد من يبرزها بشكل يتناسب مع لغة العصر، فالسيّد فضل الله كونه مفكرًا إسلاميًا، كان يتحرك في الساحة وهو يحمل همّ قضايا المرأة، ويقدم الأنموذج القدوة لها وللمجتمع، فتحركاته لم تكن مقتصرة على المسجد والحسينيّة فقط، بل نجد خطاباته في المنتديات واللقاءات الجامعية العامة والندوات المفتوحة واللقاءات الصحفية والقنوات الفضائية، في وقت لم يكن يتاح لعالم الدين الشيعي أن يكون له تواجد في كل هذه المواقع.

التّأصيل لدور المرأة

ولو رجعنا إلى الأفكار التي كان يطرحها السيّد فضل الله لكلّ الناس، وعبر خطاب عالمي يؤصّل لدور المرأة الاجتماعي والسياسي والثقافي والعلمي وغير ذلك، حسب المنظور الإسلامي، لوجدناه من أهمّ من حاول أن يؤصّل لمكانة المرأة المسلمة، بما يتناسب مع دورها الطبيعي من منظور إسلامي، وكذلك على المستوى الفكري فيما يخصّ شؤونها المتشعّبة، ونجد ذلك في العناوين التي أنتجت للسيّد فضل الله ذات الاهتمام بالمرأة، مثل كتاب (دنيا المرأة)، وكتاب (تأمّلات إسلامية حول المرأة) الذي أفرده بدراسات خاصّة حول المرأة، وكتاب (مدخل لقراءة فقه المرأة الحقوقي)، وكتاب (المرأة في دورها الرسالي)، وكتاب (العنف ضدّ المرأة)، وكتاب (الزهراء القدوة)، الذي أظهر النموذج الأبرز للمرأة المسلمة المتمثّل بالسيدة فاطمة بنت محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين.

حتى على مستوى اللّقاءات المباشرة، نجد أنّ السيّد فضل الله من الشخصيّات التي تميّزت بذلك في الساحة الإسلاميّة، فهو الذي أعطى من وقته الكثير حتى يستمع إلى المرأة ويعالج قضاياها وهمومها بكلّ رحابة صدر، فنجده يخصّص للمرأة صلاة جماعة في المسجد بعد انتهاء الرّجال، كون المسجد لا يستوعب صلاة الجماعة لكلا الجنسين، فيضطرّ لإعادة الصلاة، حتى لا يحرم المرأة من صلاة الجماعة، ويلتقي بهنّ بعد كلّ صلاة، وكأنّه يريد أن يقول بأنّ المرأة جزءٌ من المجتمع، واحترامها لا يقلّ قيمةً في الإسلام عن احترام الرجل، والاهتمام بها يتساوى مع الاهتمام بالرّجل، فلا فرق بينهما عندي، لأن الرجل والمرأة يمثّلان طاقة أسرية ومجتمعية، فينبغي رفدهما معًا بكلّ ما يرفع من فكرهما وعقلهما وروحهما وما شابه ذلك، ونجده كذلك في مواسم الحجّ، وهو يعطي للمرأة فرصة اللّقاء والحوار وطرح السؤال، فكان يستقبل القوافل النسويّة في مكّة والمدينة طيلة موسم الحجّ بكلّ محبة ومسؤولية، وفي ندوة (السبت) في دمشق من كلّ أسبوع، كانت المرأة حاضرةً منذ انطلاقتها، كان يخصّص لها قاعة مزوّدة بالبثّ التلفزيوني المباشر، ويستمع إلى تساؤلاتهن ويجيب، فنجده يهتمّ بكلّ سؤال يأتي من قبلهنّ، كاهتمامه بما يستمعه من قبل الرّجال، دون فرق، فالكثير من الأسئلة التي أدرجت في (النّدوة)، ولا سيّما الفقهيّة والتربوية والاجتماعية، كانت واردة من قبل المرأة.

  ولعلّ ما يمتاز به خطاب السيّد فضل الله المرتبط بالمرأة، أنّه منطلق من اطلاع حول التغيرات الذهنية الاجتماعية حول المرأة، ومعرفته بالعناوين العريضة البارزة في حياتها ومكانتها وتعليمها وعقليتها، وما هو لصيق بحركتها الأسرية والاجتماعية والوظيفية، فنصائح السيد للمرأة وتوجيهاته، لم تكن وليدة عقلية مكتبية متجرّدة من الواقع، وإنما هي وليدة واقع كان يعيشه كما كانت تعيشه كلّ امرأة، ولعلّ من أبرز ما جعل السيّد يمتلك نضجًا كبيرًا في هذا المجال، هو لقاءاته مع النسوة القادمات من المهجر والمغتربات، ولأنّه كان مستمعًا جيدًا للمرأة بتنوّع بيئاتها وثقافاتها وجنسياتها، فلم يكن يفكّر خارج السرب، وإنما من عمق الواقع المتّصل بالمرأة المسلمة.

مع الزهراء (الأنموذج)

يذكر السيّد فضل الله (رض) أنه عندما رجع إلى لبنان في العام 1966م، أقام احتفالًا في مولد الزهراء (عليها السلام)، ودعا فيه بعض الشخصيّات، ومنها: الشيخ محمد جواد مغنيه، والسيد موسى الصدر، والشيخ فهيم أبو عبيه - مبعوث الأزهر-، وقد كتب كلمةً نشرت بعد ذلك في (قضايانا على ضوء الإسلام).

يقول السيّد فضل الله إنّ الشيخ مغنيّة بعد الاستماع إلى الكلمة التي قام بإلقائها بحقّ الزهراء، قال له: "لأوّل مرّة أرى عالماً شيعيّاً يختصر حياة الزهراء ويبيّن مناقبها بهذا الشّكل".

ويقول السيّد فضل الله، وهو يردّ على من يتّهمه بالإساءة إلى الزهراء: "لا أظنّ أن هناك عالماً شيعيّاً كتب عن الزهراء (عليها السلام) كما كتبت"[1].

هذه الشهادة من عالم كبير كالشيخ محمد جواد مغنيّه، والذي عرف بعدم التصنّع والمجاملة على حساب الحقيقة، لهي دليل بارز على أنّ السيد فضل الله كان الرجل الأبرز الذي سعى منذ باكورة حركته ونشاطه في لبنان، أن يجعل من الزهراء قدوةً ليحتفي بها الرساليات، ولتفخر بها كلّ النساء المسلمات، فمن المهمّ جدًّا أن نغذي العقل البشري بالقدوة، حتى يجعلها هي المعيار في سعيه نحو الغاية. فالسيّد عندما يركّز على الجوانب الفكرية والرسالية والروحية والتربوية في شخصيّة الزهراء، فهو يريد أن يقول لكلّ نساء الإسلام وغيره، إننا لا ننطلق في هذا المجال من فراغ، وإنما من تراث غنيّ يعطي كلّ واحد منا جرعة وعي وقوّة نواجه بها تحدّيات المرحلة، وهذا ما كان يقصده السيّد، بأنّه كتب ما لم يكتبه عالم شيعي حول الزهراء، لأنّنا نجد الساحة مرتبطة بالزهراء - على الأقلّ في مرحلة خطابه- عاطفيًّا ومأساتيًّا فقط.

وعندما يطرح السؤال: كيف نقرأ الزّهراء إذًا، وهي التي عاشت الحزن كلّ الحزن في تفاصيل حياتها؟

نرى جواب السيّد حاضرًا: "إنّ حزن الزهراء (عليها السلام) كان حزن الرسالة، وإن وقفت من خلال القضيّة ومن خلال الإسلام... الزهراء ليست دمعة، إنها موقف... الزهراء ليست حزنًا، إنها الرسالة... حتى ونحن نحزن عليها نفرح بها... حتى ونحن نبكي عليها نبتسم لها..."[2].

فالسيّد يقدم الزهراء في جانبها الرسالي كمسؤولة عن الواقع الثقافي في المجتمع، فيقول: "... وهكذا نجد في حياة الزهراء الحركية، أنها كانت بالرغم من كلّ أثقالها البيتيّة، تتحسّس مسؤوليّاتها الثقافية في التحدّث إلى النساء المسلمين بكلّ ما يهمّ الإسلام أن يبلغ المرأة من تعاليم ومن وصايا... وهكذا، كانت لها جلسات متعددة، حتى صاحب (دائرة المعارف الإسلامية) يروي أنها كانت لديها أوراق مما تلقيه على النساء، فافتقدتها وقالت لخادمتها: "ابحثي لي عنها، فإنها تعدل عندي حسنًا وحسينًا". وإذا صحّت هذه الرواية، فإنها تدلّ على مدى الأهمية التي تعطيها الزهراء للمسألة العلميّة"[3].

وفي الجانب الحركي كذلك، يقدّم السيّد الزهراء على أنّها مسؤولة عنه أيضاً، فهي: "أوّل امرأة تواجه القضايا التي اختلف فيها الناس بالمنطق، وبالموقف الصّلب، وبالحوار، وبالدّعوة إلى الحوار، لذلك، فعندما ندرس شخصية الزهراء، فإننا نجد أنها تمثّل في كثير مما عاشته ومما انطلقت فيه، ومما دخلت فيه، ساحات المواقف الشرعيّة والكثير من أساليب العمل النسائيّ في عصرنا هذا...".

لذلك، فهو يجعل المرأة المعاصرة، تلك المرأة التي تحمل همّ المسؤولية كما كانت تحملها الزهراء في عصرها، ويعطيها دورًا مجتمعيًّا تتحرك من خلاله لتعطي الإسلام قوّةً من قوّتها، فهي ليست كيانًا ضعيفًا بالمطلق، فهي تتكامل مع الرّجل، كما الرجل يتكامل معها، فهي ليست: "كميّة مهملة على هامش الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي، والله يقول: {والمؤمنونَ والمؤمنات بعضُهُم أولياءُ بعضٍ}، أولياء في التعاون، وأولياء في النصرة، وأولياء في التّكامل {يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكر} [التّوبة: 71]"[4].

لذلك، فالسيّد يعتبر أنّ الزهراء المثل الأعلى والنّموذج الذي ينبغي أن نحتذيَ به رجالاً ونساءً، يقول سماحته: "... نريد للمرأة... أن تعرف من خلال فاطمة أوّلاً، ومن خلال زينب ثانيًا، أنّ لها دورًا في الصّراع السياسيّ على أساس خطّ الإسلام..."[5].

المرأة صانعة بيت الرسالة

قد يرى البعض أن المرأة مجرد أن ترتبط بزوجها وتعيش حياة الأسرة ومسؤوليّة البيت، فإنه من الصعوبة أن يكون لها حضور في الساحة الإسلامية، أو أنّ ذلك يمثّل نقصًا لها، وأنها أصبحت على هامش الحركة الإسلاميّة، ولكنّ السيّد يقدّم الزهراء (الأنموذج) لكلّ النساء اللاتي قد يجدن صعوبة في هذا المجال، فيقول سماحته: "إنّ على الفتاة التي يعيش أبوها رسالة في الحياة، أن تعيش معه لتعطيه من روحها روحًا، ومن حنانها حنانًا... كما كانت فاطمة تعيش مع أبيها بعد أن فقد زوجته، أمّها (خديجة الكبرى)، حتى إنّ النبي قال عنها إنّها (أمّ أبيها)، ويمكن الاقتداء بها في إخلاصها لبيت الزوجيّة، واعتبار حركة المرأة في بيت الرسالة لا تمثّل نقصًا في شخصيّتها أو في واقعها". وهذا ما نجده عند بعض النساء اللّواتي يعتبرن الاهتمام بالأب أو الزّوج حاجزًا أمام انطلاقتهنّ الرساليّة في المجتمع، فالزهراء كانت "تقوم بأعباء البيت وشؤونه، من صنع الغذاء والرّعاية، ولذلك كانت زوجة كأفضل ما تكون الزّوجات، وكانت أمًّا كأتمّ ما تكون الأمّهات، فلقد كانت تعيش البيت الرّسالة، ولم تكن لتعيش البيت مجرّد روتين تقليديّ، كما تعيشه بعض الزّوجات أو الأمَّهات في البيت..."[6].

المدافِعة عن الإسلام

عندما يريد السيّد فضل الله أن يقدّم الزهراء فيما يرتبط بما حدث لها ولبعلها الإمام علي(ع) بعد وفاة أبيها رسول الله (ص)، فإنّه يقدّمها كنموذج حي يختزن الكثير من نقاط القوّة، وإن كان يعيش المأساة والظّلم، فكانت قضيّتها كما يقول السيّد: "أنها وقفت لتتحدّث ولتخطب ولتحتجّ ولتثير الكثير من علامات الاستفهام، ولذلك نقول إنها كانت تمثّل المرأة التي تتحمّل مسؤوليّتها في كلّ قضايا الحقّ، لا في كلام خفيّ تتحدّث به، ولكن بصوت قويّ صارخ، ينطلق بكلّ قوّة وبكلّ صفاء وبكلّ إخلاص.

لذلك، علينا أن نعرف أنّ عظمة الزهراء، أنها عاشت منذ انتقال رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى، وحتى وفاتها، همّ الحقّ الذي تؤمن به، كانت تتحرّك في نشاط دائم من أجل أن تركّز الحقّ كما يريد الله سبحانه وتعالى، ومن خلال هذا، نعرف أنّ مسؤوليّة المرأة أن تواجه واقعها وأن لا تكون معزولةً عن الواقع، وأن لا تبتعد عن القضايا الحيويّة إذا كانت تملك طاقة وقوّة في الحركة وظروفاً مناسبة..."[7].

العفَّة ليست مانعًا لحركة المرأة

يرى السيد أن العفّة المرتبطة بالجانب الأخلاقي بنظر الإسلام، هي للمرأة والرّجل معًا، فكلاهما مسؤولان عنها، فيقول: "ليس هناك فرق في الجانب الأخلاقي لدى المرأة والرجل، لذلك نقول إنّ الإسلام الذي قدّم أمّ المؤمنين خديجة الكبرى (رض) لتدعم النبيّ (ص) في رسالته بكلّ ما عندها من قوّة، وقدّم الزهراء لتكون مع رسول الله (ص) ومع زوجها وابنيها في خطّ الإسلام، وقدّم لنا السيدة زينب (ع) بطلة كربلاء، ليقول لنا إنّ علينا أن نواجه التحدّيات الكبرى التي تأتينا من الرجال ومن النساء في خطّ الكفر والاستكبار، لنقدّم الرجال والنساء في خط الإسلام"[8].

ختامًا، هذه كلمات بسيطة حاولت أن أبيّن من خلالها كيف كان السيّد فضل الله (رض) يقرأ الزهراء (ع)، وذلك من خلال الواقع الذي كان يتحرّك فيه، وما تحتاجه الأمَّة في واقعها منذ أن انطلق في الساحة الإسلاميّة التي كانت تعاني فقدان الهويّةّ الحقيقية للإسلام، وخصوصاً فيما يتعلّق بالمرأة المسلمة.

 فالزهراء(ع) كانت تتحرّك وهي تحمل همّ حقّها في فدك الّذي غُصِب، وحقّ زوجها عليّ من تقمّص غيره لحقِّه في الخلافة، فكانت تسعى جاهدةً، تحتجّ بكلمات الله وبكلّ سلميّة، وتحضّر لاسترداد هذا الحقّ، حتى تعيد إلى الإسلام موقعيّته الحقيقيّة، كما أرادها رسول الله (ص)، فكلّ القضايا أمام ذلك تعتبر هامشيّة، وخصوصًا عندما تكون قابلةً للبحث التاريخيّ، وقد اختلف حولها العلماء والمحقّقون، فالسيّد فضل الله كانت نظرته نظرة واقعيّة، ولم يسع لإثارة ما قد يجعل من حركته ضيّقة، أو أن يطغى المهمّ على حساب الأهمّ، فمن الحكمة أن نجعل في حاضرنا الزّهراء أنموذجًا وقدوةً ونقطة لقاءٍ، تجمع لقوّة الإسلام ومواجهة التحدّيات من هنا وهناك. 

 

بقلم: الشيخ صلاح مرسول