لم يكن مستغرَباً أن تنعكس «الفوضى السياسية» التي تعمّ العالم العربي على القمّة التنمية الاقتصادية الاجتماعية لجامعة الدول العربية المنعقدة في بيروت.
 

فبعد أن كانت المنطقة منقسمة بين محورين الاول سعودي- خليجي والثاني ايراني- سوري بدأ محور جديد الظهور مع بدء رسم خريطة النفوذ في سوريا وهو محور تركي- قطري.

لم يكن المحور الاول راضياً على مسار القمة في بيروت. فهناك بنود لا يريد ادراجها الآن أو في أفضل الحالات يريد ابقاءها خارج الضوء مثل عودة سوريا الى جامعة الدول العربية واعادة النازحين السوريين الى ديارهم.

في النقطة الاولى، صحيح انّ إعادة سوريا باتت شبه محسومة لكنّ المشكلة في التوقيت، حيث تريد واشنطن ثمناً ما قبل هذه العودة. وفي النقطة الثانية والتي أثارت جدلاً كبيراً خلال صوغ نتائج القمة، فإنّ القرار الدولي ما يزال غائباً في هذا الاطار والى أجَلٍ غير معروف.

اضف الى ذلك، اعتقاد هذا المحور أنّ عدم مشاركته على مستوى الملوك والرؤساء يمنع منحَ شرعية عربية للواقع السياسي الجديد الذي نتج بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، وربما بعد التسوية الرئاسية التي ندمت السعودية على موافقتها عليها.

أما المحور الثاني وهو الإيراني- السوري فهو يستعجل العودة العربية الى سوريا والتطبيع معها بأقل الأثمان السياسية، لكنّ واشنطن فرملته لأنها تحمل اجندة ببنود عدة ولكل منها ثمنه.

من هنا عابت دمشق على الفريق «الحليف» لها في السلطة اللبنانية عدم ممارسته الضغط المسبَق المطلوب لكسب التزام عربي بعودة قريبة على الاقل، لا بل الحماسة الرسمية اللبنانية في وقت كانت الرسائل الاميركية التي حملها السفير ديفيد هيل الى بيروت واضحة: «من الأفضل عدم الذهاب الى حكومة جديدة تكرّس التوازنات لمصلحة المحور الإيراني، وليكن الحل بتفعيل الحكومة المستقيلة». وهو ما أعطى انطباعاً بأنّ للحكومة ثمنها أيضاً.

كذلك تعمّد هيل تلاوة مواقفه الرسمية بعد لقائه الرئيس سعد الحريري وليس رئيس الجمهورية، في اشارة دعم وشدّ أزر الأول، أي الحريري، وضغط على الرئيس ميشال عون.

ولكن بدأ ارتياب فريق 8 آذار من الوزير جبران باسيل حين أجهض عمداً تسوية جواد عدرا، إن من خلال الإصرار على كشف «قناعته» الوزارية مسبقاً او من خلال اعادة فتح ملف شائك هو تبادل الحقائب.

لكنّ المواقف التي اطلقها في القمة تضمّنت تطمينات واضحة لسوريا، اضافة الى تواصل مع دمشق ينبئ بزيارة رسمية معلنة الى الرئيس السوري بشار الأسد قريباً بعدما كانت دمشق اعتذرت سابقاً عن طلب باسيل زيارتها سراً.

يبقى المحور الثالث الجاري تكوينه والذي اندفع في اتجاه الساحة اللبنانية محاوِلاً الاستفادة من فراغات غياب المحورين الأوليين. فالتحالف القطري ـ التركي (بين قوة مالية هائلة وقوة عسكرية كبرى) يسعى لإمساك اوراق اقليمية من خلال الساحة السورية، وبالتالي ايجاد مساحة في لبنان الذي هو على تماس سياسي مع السعودية وايران كما واشنطن وباريس، على أمل أن يكسب هذا المحور اوراقاً ثمينة ونفوذاً اكبر.

اضف الى ذلك، ان التوقيت يتزامن مع بدء مرحلة ترتيب الساحات والاختبارات القاسية لانتزاع مكاسب لكل محور مع بدء العدّ العكسي لمغادرة الجيش الاميركي سوريا، وربما لاحقاً العراق. وتشير معلومات ديبلوماسية الى مفاوضات سرية تجري بين أنقرة ودمشق برعاية روسيَة لإنجاز ترتيب ما حول وضع الأكراد في شكل يشبه الإتفاق الذي حصل ايام الرئيس حافظ الاسد وأدى الى تسليم زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان الى السلطات التركية.

حتى الآن، يبدو انّ هذا النزاع السياسي العنيف يغامر في إعادة تمزيق النسيج السياسي اللبناني الذي يعاني اصلاً من فجوات كثيرة. ولا تكمن الخطورة هنا فقط، فالخشية من أن تسمح الفراغات السياسية الناتجة من غياب الحكومة وإنعدام الوزن سياسياً الى تبادل رسائل أمنية عبر «صندوق البريد اللبناني».

حتى الآن لا وجود لقرار من هذا النوع عبر الساحة اللبنانية، لكن ما حصل في منبج السورية يستوجب رفع مستوى الحذر في لبنان.

ففي غمرة الفوضى داخل الإدارة الأميركية ونجاح المحقق روبرت مولر من إدخال تحقيقاته الى قلب مكتب الرئيس دونالد ترامب، جاءت رسالة دموية مروعة لتصيب قرار ترامب بالانسحاب من سوريا إنفاذاً لوعوده الانتخابية وسعيه لكسب ودّ الشارع الاميركي، وتقول: «ممنوع أن ترحلوا بهذه الطريقة وبلا تفاهمات».

لكنّ الرسالة الدموية لم تبدل في قرار البيت الابيض، لا بل على العكس، حيث انكبّت القيادة العسكرية في تقصّي بصمات الجهة الفعلية التي تقف وراء عملية «داعش» والتي تمحورت حول واحدة من ثلاث قوى:

-1 تركيا، وهو ما يجهد الأكراد في الترويج له، خصوصاً في ظلّ الخلاف الحاصل حول العمق التركي داخل سوريا.

-2 إيران وهو ما تؤشر اليه دول المحور المعادي لإيران مثل السعودية.

-3 روسيا التي تريد انسحاباً أميركياً ولكن بعد إنجاز تفاهمات واسعة ومفصّلة وكاملة حول المرحلة المقبلة وحدود المصالح والأدوار.

وتشير التحقيقات حتى الآن الى انّ للخلية المنفّذة علاقة بالشيشانيين، وتميل القيادة العسكرية الاميركية الى الاعتقاد بأنّ المخابرات الروسية كانت نجحت سابقاً في اختراق المجموعات الإرهابية الشيشانية التابعة لـ»داعش»، ما يعني انّ واشنطن تبدو أقرب الى الاحتمال الثالث، وستردّ على العملية بعد التأكد من الجهة الفاعلة.

ووفق المصادر، فإنّ الرد يراوح بين مستويين:

- الأول، ردّ قوي وكبير يمنع ايّ جهة من استهداف القوات الاميركية اثناء انسحابها، ولكنّ المشكلة هنا أنّ مثل هذا الردّ قد يؤدّي الى إعادة فتح جبهات في الحرب في سوريا والإنزلاق نحو تجديد فصولها.

- الثاني، معاودة «ديبلوماسية الدرونز» أي إطلاق الطائرات من دون طيار التي بدأ بها رئيس الاستخبارات الاميركية السابق برينان في ليبيا واليمن وباكستان ومناطق أُخرى. وهذا يعني رداً محصوراً وموجعاً في الوقت نفسه لأهداف منتقاة بعناية.

وهنا يظهر السؤال: هل الساحة اللبنانية محصّنة جيداً لتبقى خارج اطار هذا النزاع؟ أم انّ التأزيم السياسي وتداخل المحاور في لبنان قد يعيدان فتح أبواب سياسة الرسائل الأمنية؟ هل يعيد التأزيم السياسي وتداخل المحاور في لبنان فتح أبواب «الرسائل الأمنية»؟