بينما كانت جيوش الحملة الصليبية الخامسة تحاصر مدينة دمياط المصرية عام 1219م، وصل إلى خيمة السلطان الكامل (تـ. 1238م) حاكم الدولة الأيوبيّة، راهب أوروبي شاب يخفق قلبه قلقاً على الأرواح التي ستزهق؛ القدّيس فرنسيس الأسيزي (1181-1226)، مؤسّس طائفة الفرنسيسكان.
 
استقبله السلطان بكرم كما كان العرف العربي، وربما كان معجباً جداً بتقواه. ماذا جرى في هذا اللقاء شبه الأسطوري؟
اهتمّ الباحثون بقصة اللقاء هذه (يمكن الرجوع لمقالة المدن بقلم محمود الزيباوي)، كما ترجمت لسيناريوهات عدة في الثقافة الشعبية، واحتلفت بذكراها في العام الماضي الرهبنة الفرنسيسكانية في مصر وكاتدرائيات وجامعات غيرها، واعتبرها البعض مثالاً على "حوار الأديان"، كما أعيدت صياغتها في أفلام وأعمال فنيّة عدة.
 
تركز المقالة على زاوية مختلفة عما سبق ذكره، حيث تبحث في التفسير الأوروبي لهذا اللقاء.
نشر المؤرّخ جون نولان John Nolan من جامعة نانت الفرنسيّة، وهو متخصّص معتمد في حياة القدّيس فرنسيس الأسيزي، مقالاً في مجلة European Review يستفسر خلاله عن الدافع الحقيقي للقدّيس فرنسيس لمقابلة سلطان مصر في سبتمبر 1219، في خضمّ معركة دمياط خلال الحملة الصليبيّة الخامسة.
 
وفقاً لنولان، كان فرنسيس بالنسبة لبعض كتّاب القرن الثالث عشر، رسولاً مسيحياً جديداً يسعى للاستشهاد، وبالنسبة لآخرين، كان واعظاً ماهراً بذل جهده الشديد في نقاشه مع الوثنيّين لإثبات حقيقة المسيحيّة. أما الفيلسوف الفرنسي فولتير فاعتبر فرنسيس مجنوناً، واعتبر السلطان الكامل (ابن شقيق الناصر صلاح الدين) حاكماً حكيماً وعطوفاً لم يفكّر في إلحاق الأذى بالأسيزي.
وسلك الكاتب المتصوّف الأفغاني إدريس شاه (ستينيات القرن الماضي) مسلكاً آخر، واعتبر أن دافع فرنسيس الحقيقي في الذهاب إلى مصر، هو التدريب الروحاني مع الصوفيّة المسلمين.
وبالنسبة لكثيرٍ من كتّاب القرن العشرين، وخاصّة الفرنسيسكان، كان فرنسيس من دعاة السلام الذين صرخوا ضدّ الحروب الصليبيّة.
 
كيف قابل فرنسيس السلطان الكامل؟ وماذا حدث بينهما؟ وما الملابسات التي أحاطت بالأمر؟
 
أعدّ الباحث روبرت بوفال Robert Bauval ورقة حول هذه الزيارة بعنوان "القديس والسلطان"(2009) "The Saint and the Sultan" قدم فيها تحليلاً للروايات المقدمة حول القصة، وما جرى فيها.
مشهد القدّيس فرنسيس وهو يخطو بهدوءٍ في النار، مع فتاة عربيّة تمدّ ذراعيها نحوه، بينما يراقب السلطان الكامل الأمر في دهشة: كيف فسّر فنانو أوروبا لقاء قديس الفرنسيسكان بسلطان مصر والشام؟
بينما كانت جيوش الحملة الصليبية الخامسة تحاصر مدينة دمياط المصرية عام 1219م، وصل إلى خيمة السلطان الكامل (تـ. 1238م) حاكم الدولة الأيوبيّة، راهب أوروبي شاب يخفق قلبه قلقاً على الأرواح التي ستزهق؛ استقبله السلطان بكرم كما كان العرف العربي، وربما كان معجباً جداً بتقواه. ماذا جرى في هذا اللقاء شبه الأسطوري؟ 
فرنسيس في مواجهة الصليبيين والبابا
كان فرنسيس الأسيزي معارضاً للحروب الصليبيّة، حيث تخبرنا المصادر الأوروبيّة أنه عُرف بتبجّحه في مواجهة البابا إنوسنت الثالث، وذكّره بالمهمّة الرسوليّة للأناجيل - الفعل الذي يمكن بسهولة أن يُفسَّر على أنه هرطقة في تلك الأوقات الخطرة، وهي تهمة قد تكلّف المرء حياته.
 
البابا إنوسنت الثالث هو من أصدر قراراً بشنِّ الحملتين الصليبيّتين الرابعة (1198-1204) والخامسة (1217-1221)، والحملة الصليبيّة على القسطنطينيّة، وحملة أخرى على ما عرفوا بـ"الكثار" جنوبي فرنسا.
 
عام 1217, كان الهدفُ العسكري الأساسي للحملة الصليبيّة الخامسة هو مصر، رأس القوة العسكريّة الإسلاميّة وقتها، حيث تمَّ إرسال قوة بحريّة ضخمة من إيطاليا للاستيلاء على ميناء دمياط عند مصبِّ نهر النيل، ثم الزحف إلى القاهرة.
 
وخلال الحملة، أبحر فرنسيس الأسيزي، مع 20 من إخوانه المخلصين، من أسكونا (تقع في سويسرا حاليّاً) في يونيو 1219، مع فرقة من الصليبيين، إلى مصر، وانضمّوا إلى معسكر الصليبيين في دمياط.
 
وفي سبتمبر/أيلول من نفس العام، رغم كل الصعاب، تسلّل فرنسيس مع عدد قليل من زملائه إلى معسكر المسلمين، وتمكّنوا من الوصول إلى خيمة السلطان الكامل.
 
هل أراد فرنسيس الموت على يد الكامل؟
من الواضح أن هذا اللقاء شبه الأسطوري الذي حدث في سبتمبر 1219 بين القدّيس والسلطان، قد تمّ استغلاله خلال القرون الثمانيّة الماضيّة من قبل كتّاب مختلفين، وفقاً لأمزجتهم وأمزجة عصورهم، يقول روبرت بوفال.
 
في القرن الثالث عشر، عندما كان التوتر بين العرب والمشاركين في الحملات الصليبية في أعلى مستوياته، وعندما بلغ الحماس الرسولي مستويات جديدة محمومة، كان من الطبيعي أن يقال بأن فرنسيس وضع نفسه بهذا التصرف في "الواجهة"، وأنه فعل ذلك بدافع الرغبة الشديدة في "الاستشهاد"، كما قال مؤرخو تلك الفترة، لكن هذه النظرية في رأي بوفال لا تناسب ما يعرف عن الأسيزي، حيث عرف عنه أنه يكره العنفَ والقسوةَ إلى درجة أنّه أقنع مرة صبياً يبيع طيور اليمام، بأن يعطيه إيّاها، خوفاً عليها من الذبح والطهي، وبعدها داوى اليمام وحين استعاد عافيتَه أطلق سراحه لينطلق في الهواء.
 
إن داعية السلام الذي دافع عن اللاعنف والمحبة، الذي عالج مرضى الجذام وساند الفقراء والمقعدين، يصعب أن تكون لديه الرغبة في الموت.
 
من ناحية أخرى، رُوي أنه حاول بسذاجة تحويل السلطان الكامل إلى المسيحيّة، لكن بالتأكيد فرنسيس كان رجلاً ذكياً، وله خبرة كبيرة في المسائل التبشيريّة، ولا يمكن أن يأمل، خاصّة في مثل هذه الظروف، أن يقبل السلطان بذلك، أو حتى أن يسامحه على عرضه، بحسب بوفال.
 
ظروف سياسية عسكرية جعلت اللقاء هامّاً
التفسير الأكثر ترجيحاً والأكثر وضوحاً هو أن فرنسيس كان يتألم لضحايا مذابح الحروب الصليبيّة (كان هو نفسه قد عانى عند إرساله إلى الحرب كشاب يبلغ من العمر 20 عاماً)، وكان يأمل أن يكون السلطان الكامل قد شعر أيضاً بالضيق من كل هذا القتل العقيم.
 
وكان السلطان الكامل في هذا الوقت في التاسعة والثلاثين من عمره، وقد نُصَّبَ للتوّ سلطاناً، بعد وفاة والده السلطان العادل.
 
وكان الكامل قد قاد في العام السابق على لقائه بفرنسيس، الدفاع عن دمياط ضدّ هجوم أسطول الصليبيين، وشهد مذابحَ مروِّعة عندما سقطت قوّاته غير المؤهّلة في أيدي الفرسان المسيحيين المدرّبين تدريباً عالياً.
 
لذلك، وفي هذا الوقت المضطرب للغاية، اضطرَّ السلطان لتقديم العديد من عروض السلام إلى الصليبيين، رفضها المندوب البابوي بيلاجيوس، حتى أن الكامل عرضَ إعطاءهم القدس وإعادة بناء أسوارها (دمّرها صلاح الدين في عام 1182).
 
في هذه الظروف، من المرجّح أن السلطان رأى وصول فرنسيس المُحب للسلام فرصةً لمحاولة أخرى، للتوصّل إلى تسوية سلميّة أو هدنة مشرّفة، على أمل منع المزيد من إراقة الدماء من الجانبين، والأهم من ذلك، الحفاظ على حياة سكان دمياط المحاصرين، ولكن آمال السلطان وفرانسيس في السلام أحبطها المندوب البابوي بيلاجيوس.
 
بعد شهرين من لقاء السلطان بالقديس، في نوفمبر 1219، اقتحم الصليبيون دمياط، وذبحوا الكثير من سكّانها المدنيين. وأُجبر السلطان على سحب قوّاته إلى المنصورة. لم يحدث الكثير حتى عام 1221. ثم زحف الصليبيون نحو القاهرة.
 
لحسن الحظ، فإن تلك السنة شهدت فيضاناً للنيل، عنيفاً بشكلٍ استثنائي، فأعطى السلطان الأمرَ بفتح سدود المياه، وأغرق دلتا النيل وطريق الصليبيين إلى القاهرة، فأجبرهم على التراجع، وفي الوقت نفسه أغار عليهم المصريون، فاضطرَّ المندوب البابوي بيلاجيوس للاستسلام والموافقة على اتفاقية سلام استمرّت ثماني سنوات، عاد بموجبها الصليبيون إلى أوروبا. 
 
ما الذي حدث بين السلطان والقديس؟
حقيقة الأمر هي أن كل ما قيل عن مجريات اللقاء وحوله ليس أكيداً؛ فلا توجد رواية واحدة لشاهدِ عيانٍ على الحدث، يقول بوفال.
 
أوّل رواية لهذه القصة نُقلت عن جاك دي فيتري Jacques de Vitry، وهو مؤرّخ للحملة الصليبيّة الخامسة، التي كانت على دمياط، وكذلك رواية من مؤلف مجهول تدعى "لا كرونيك دي إرنول - La Chronique d’Ernoul". وتؤكد كلا الروايتين أن فرانسيس، انتقل إلى معسكر المسلمين وتحدّث إلى السلطان، وعاد في النهاية بأمان.
 
في عام 1228، كلّف البابا غريغوري التاسع، وكان من المشغوفين بحب فرنسيس، الراهب الفرنسيسكاني توماس من سيلانو Thomas of Celano لكتابة سيرة حياة فرنسيس. وطبقاً لرواية سيلانو، فإن المسلمين ألقوا القبض على فرنسيس حين تسلّل إلى معسكرهم وضربوه، ثم اقتادوه إلى السلطان فعامله بكرم، وأعطاه هدايا، ولكن فرنسيس احتقرها واعتبرها كـ"الروث".
 
ويبدو أن السلطان، بحسب الرواية، أعجب عندئذ بفرنسيس واستمع لحديثه باهتمامٍ، ثم أُعيد فرنسيس إلى معسكر الصليبيين دون أن يصاب بأذى.
 
الإذن بالتبشير وقصة الفتاة الداعرة
هناك إضافة فاضحة لما سبق، موجودة في مخطوطة من القرن الرابع عشر، من قبل أوغولينو دا مونتيجيورجيو، بعنوان Actus Beati Francesci زهور سانت فرانسيس الصغيرة"، تعود إلى 1330م، وفحواها أن السلطان منح الإذن لفرنسيس للتبشير في أي مكان بمصر، وبينما يجاهد فرانسيس في مهمّته لاحقته فتاة مصريّة جميلة حاولت إغراءه.
 
وبعد أن يذهب معها إلى منزلها، ينجح في تحويلها ويجعلها تعتنق المسيحيّة، بعدما شاهدته من معجزات على يديه، وتصبح نموذجاً للفتاة التقيّة المتديّنة، ثم يتحوّل كثيرٌ من المسلمين إلى الدين المسيحي.
 
ويبدو أن كاتب هذه الرواية حاول تشبيه فرنسيس والفتاة المصريّة بيسوع ومريم المجدليّة، التي آمنتْ على يد يسوع، تاركةً حياة العربدة لتصبح نموذجاً للفتاة التقية، يعلّق بوفال.
 
وفي كنيسة مونتيفالكو، أظهر الرسام بينوزو غوزولي Benozzo Gozzoli القدّيس فرنسيس وهو يخطو بهدوءٍ في النار، وفي يده صليبٌ، ويُظهر علامة البركة باليد الأخرى، وتوجد فتاة عربيّة تمدّ ذراعيها نحوه، بينما يراقب السلطان الكامل الأمر في دهشة... وصحب الرسم تعليق: "عندما أرسل السلطان فتاةً لإغراء فرانسيس المبارك، وداس على النار وأدهش الجميع".
 
في النهاية يستنتج بوفال أن فرنسيس قد التقى بالسلطان في الحقيقة، وقد استقبله الأخير بكرم كما كان العرف العربي، وربما كان معجباً جداً بتقوى فرنسيس وحبه للاعنف والدعوة للسلام، وربما ناقشا معاهدة سلام أو هدنةً محتملة فعليّاً، ولكن المندوب البابوي أفسد الاتفاق، واستغلّ الكثيرون هذه القصة واختلقوا حولها العديد من القصص، لأهداف مختلفة.