في سلسلة التعديات على حرية التعبير المتواصلة بشكل غير مسبوق منذ مدة، تقدم وزير الاقتصاد رائد خوري بدعوى امام مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية والملكية الفكرية، ضد رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر .

في الدعوى ان الأسمر إتهم الوزير بصفقات وسمسرات في قضية عدّادات المولدات الكهربائية الخاصة، خلال حلقة تلفزيونية شارك فيها الاثنان. وقد أوضح الأسمر في مؤتمر صحافي أنه تساءل "وهذا من حقي كيف يحصل ان توجد عدّادات يفوق عددها المليون خلال مدة وجيزة ومن هو المستفيد منها وهو سؤال مشروع وهو استفسار بهدف الحصول على اجابات من الوزير وليس اتهاما مباشرا له حيث انني لا املك المعطيات التي تؤهلني لتوجيه الاتهام."

ما يميز الدعوى ضد الأسمر عن الدعاوى الأخرى التي طالت سابقا حرية التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي، هي انها هذه المرة مست بالحرية النقابية التي تفترض إبداء الرأي في الشأن الاجتماعي والاقتصادي وحتى الوطني. حيث ان الأسمر لم يكن يتكلم باسمه الشخصي، بل هو يمثل في مواقفه المنظمة الكبرى في الحركة النقابية اللبنانية.

في خلفية موقف الوزير وما يمكن ان يفسره، ان الأسمر كان قد تقدم باسم الاتحاد العمالي بمراجعة طعن امام مجلس شورى الدولة في موضوع العدّادات على اساس انها تشرّع المولدات الكهربائية الخاصة.

واذا اضفنا إلى هذه المراجعة مراجعات طعن أخرى تقدم بها الاتحاد العمالي امام مجلس شورى الدولة، ضد وزارة الاتصالات وضد تعميمين لرئيس الحكومة، يمكننا ان نفهم مغزى الحملة على بشارة الأسمر، الذي أعاد منذ انتخابه شيئا من الصدقية المفقودة الى الاتحاد العمالي العام.

ليس الغرض من هذا المقال التوسع في مسألة المساس بالحريات النقابية، بل التركيز أكثر على حرية التعبير، التي هي في اساس الحريات الأخرى، والتى تتعرض لانتهاكات متكررة في لبنان في الفترة الأخيرة.

في هذا المجال ابدي الملاحظات الأولية الآتية:

اولا: حرية التعبير هي من الحريات الأساسية التي نص عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان في مادته رقم 19، هذا الإعلان الذي التزمه لبنان في مقدمة دستوره.

ثانيا: حرية التعبير هي في اساس بناء المجتمعات القائمة على التواصل بين افرادها، وتبادل المعلومات والأفكار ومناقشتها وتقييمها. وليست مصادفة ان يطرح قضية حرية التعبير التيار الانسانوي في حقبة "النهضة" في الغرب في عز احتدام الصراعات الدموية بين الطوائف المسيحية وتهديدها لمجتمعاتها بالتفكك. وعلى عكس ما يظنه البعض في لبنان، ان حرية التعبير لا تهدد السلم الاهلي القائم على الكذب المتبادل، بل تساهم في بناء النسيج الوطني على اسس متينة.

ثالثا: كما جاء في قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، تعتبر حرية التعبير من المداميك الاساسية للديموقراطية ومن الشروط الأولية لتقدم المجتمعات والأفراد. وهي بحسب المحكمة ذات قيمة ليس فقط عندما تساهم في تبادل للمعلومات او للآراء غير "المزعجة"، بل ايضا في الحالات التي تكون فيها هذه المعلومات او الآراء صادمة ومولّدة للشكوك.

رابعا: بعد التحركات المدنية التي نظمت ضد التعدي على حرية التعبير وضد استدعاء ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب انتقادهم رئيس الجمهورية او مسؤولين معظمهم من فريقه، صرح الرئيس عون لمناسبة حيازته دكتوراه فخرية من جامعة اللويزة بما يأتي: "ان حرية التعبير حق مقدس، ولكن هناك ايضا مقدسات أخرى يجب ألا تغيب عنكم، وأولها الحقيقة التي هي سقف الحرية، فحرية التعبير اذا جافت الحقيقة لا تعود حرية بل تصبح افتراء واعتداء معنويا".

هناك حقائق ملموسة يجب احترامها بالطبع كالاحصائيات والوقائع الموثقة من مصادر موثوق بها. لكن حتى في هذه الحالات يمكن مناقشة هذه المعطيات من خلال ابداء الرأي في المنهجيات التي ادت اليها او من خلال مقارنتها بمعطيات اخرى وغير ذلك.

لكن الحقائق الأخرى في المجتمعات البشرية نسبية ولا يوجد عادة توافق حولها، بل تحتاج إلى نقاش ومراجعة دائمة. في هذا المعنى ان حرية التعبير هي الطريق الوحيد لمعرفة "الحقيقة" او الحقائق في مرحلة زمنية معينة. اي ان الحقيقة لا يمكن ان تكون سقف الحرية، فهذه الحرية هي التي توصل إلى هذه الحقيقة غير المعروفة مسبقا.

الا اذا كنا نتكلم عن الحقيقة المفروضة دينيا او من خلال أنظمة استبدادية. من هنا خطورة قول الرئيس ان حرية التعبير هي "حق مقدس" وكلامه عن "مقدسات اخرى... وأولها الحقيقة". فالحريات هي حقوق دستورية او قانونية أقرّها البشر في مرحلة تاريخية ويمكن مناقشتها وتطويرها. ويجب الإحجام عن وضع الحريات والحقيقة في خانة "المقدسات" لأن ذلك يؤدي إما الى منع مناقشتها، وإما مناقشتها في جو من العنف يرافق عادة الحديث في "المقدسات".

فيجب الا ننسى ان حرية التعبير هي النتيجة او التجسيد العملي لحرية الفكر والتفكير.