الضياع يسود المشهد السياسي اللبناني، بعد زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركي ديفيد هيل، ولقائه مختلف المسؤولين. هيل الذي حضر بخطاب قديم جديد، لم يقدّم أي رؤية سياسية واضحة للمواجهة، التي تحدّث عنها باسم إدارته. وهو في بعض اللقاءات، شدد على وجوب تشكيل الحكومة سريعاً. ولكن، بشرط أن لا تكون الغلبة فيها لحزب الله. بينما في لقاءات أخرى، هناك من استشف منه أن بقاء حكومة تصريف الأعمال أفضل من تشكيل حكومة جديدة، في ظل عدم وضوح التوجهات الدولية من جهة، وطالما أن الحكومة الجديدة ستمنح الحزب انتصاراً صرفاً، تأبى واشنطن التسليم به، في لبنان كما في سوريا.

تمايز فرنسي 

اختلف الأفرقاء اللبنانيون في تقييمهم لزيارة هيل. البعض اعتبرها في إطار رفع العتب، والاستعاضة عن زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو. والبعض الآخر، وضعها في إطار التصعيد السياسي، الذي خلا من أي خطّة واضحة، مع إعادة التذكير بالعقوبات، وبمواكبتها، وبأن المواجهة الأميركية الإيرانية مستمرة، ولبنان إحدى ساحاتها. لكن التحرك الإيراني كان سريعاً، ردّاً على التحرك الأميركي. وما كان لافتاً، حسب ما تكشف مصادر متابعة لـ"المدن"، هو اللقاء الذي عقد بين السفيرين الفرنسي والإيراني قبيل زيارة الأخير لبيت الوسط ولقائه الرئيس سعد الحريري.

ومعروف أن الحريري يفضّل تشكيل الحكومة سريعاً، لجملة أسباب. وهو يرتكز على علاقته الممتازة مع الفرنسيين، الذين يتفهمون ظروفه، وحيثيات قراراته، وتفاهماته مع القوى اللبنانية، بما فيها حزب الله. كما أن باريس لا تريد القطيعة مع إيران، وحريصة على استمرار التفاهم معها. وصل الأمر ببعض المراقبين إلى حدّ اعتبار أن اللقاء الفرنسي الإيراني يهدف إلى تطويق الزوبعة الأميركية. وموقف باريس معروف من العقوبات الأميركية على إيران، والخروج من الإتفاق النووي.

هكذا، وإثر اللقاء الفرنسي الإيراني، جاءت الزيارة السريعة، والمفاجئة في المضمون والتوقيت، للسفير الإيراني إلى بيت الوسط ولقائه الحريري. صحيح أن مصادر الحريري تحدّثت عن تسليمه مذكرة للإفراج عن نزار زكا. لكن الأهم، هو ما ورد في البيان الصادر عن المكتب الإعلامي للحريري، وتحدّث عن استعراض العلاقات الثنائية بين البلدين، والبحث في سبل تطويرها.

معركة سوريا

ليس بسيطاً أن يصدر هكذا بيان عن مكتب الحريري، فيما الزيارة حصلت بعد ساعات على لقاء الرجل بديفيد هيل، وبعد فترة قصيرة على إصدار السفارة الإيرانية بياناً يدين الزيارة الأميركية للبنان، ومضمون كلام وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية. وما هو لافت أكثر، كان كلام السفير الإيراني، الذي أكد الحرص على ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة، والتمسك بالحريري. وهذا يفيد بأن إيران تستعجل تكريس انتصارها في لبنان، الذي تحاول واشنطن عرقلته، في فرض شروط صعبة ومحرجة، ليس من السهل تجاوزها ولا قبولها، من أجل إنجاز التشكيلة الحكومية.

لا يمكن فصل الموقف الأميركي داخل لبنان، عن المواقف الأميركية مع الدول العربية. إذ أسهم الضغط الأميركي في فرملة الإندفاعة العربية تجاه النظام السوري، وأنتج هذا الضغط  وقف أي محاولة لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية. وكان الأميركيون قد تقصدوا أن تشير مصر إلى هذه الفرملة، من خلال مطالبة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، النظام السوري بتقديم مواقف واضحة، وملتزمة بتطبيق القرار الدولي 2254، في مقابل الاستعجال الروسي والإيراني لإعلان الانتصار في سوريا، ولبنان  ضمناً، عبر إثارة ملف إعادة الإعمار أو عودة اللاجئين.

ما تؤكده واشنطن هو أن المعركة مستمرة. ولن تسلّم بالإنتصار النهائي لصالح إيران وروسيا في سوريا. وهذا يرتبط بجملة حسابات، لا تخلو منها الأسباب الداخلية الأميركية، في ظل الضغط الذي يتعرض له دونالد ترامب، والتحقيق الذي يجري حول تورطه في علاقات مع الروس. لذلك، يجد نفسه مضطراً إلى التشدد والتصعيد، وعدم التسليم بالإنتصار الروسي.

الاستنجاد بإيران؟

لبنان، وبجناحيه الأساسيين في هذه المرحلة، أي جبران باسيل وسعد الحريري، يستعجلان الشروع في إعادة الإعمار في سوريا. وليس تفصيلاً أن يعود الحريري إلى تأكيد عمق علاقته مع التيار الوطني الحرّ، معتبراً أن هناك قوى عديدة متضررة من هذا التفاهم والتقارب. وهذا يدلل على مدى الترابط في الرؤى بين الطرفين، خصوصاً حيال الوضع في سوريا، والمشاركة في عملية إعادة الإعمار فيها، التي تفرملت أميركياً.

من هنا يمكن قراءة التطورات التي حدثت أخيراً بعد زيارة هيل إلى لبنان، وزيارة السفير الإيراني إلى بيت الوسط. هذه الزيارة (الإيرانية) جاءت بعد كلام فحواه البحث عن بديل من الحريري، لصعوبة دخوله في علاقة مع النظام السوري، ما يمثّل رعباً لدى الرئيس المكلف. لذا، اندفع إلى تأكيد أهمية تعزيز العلاقات الثنائية بين لبنان وإيران. ليبدو المشهد، وكأن الحريري يستنجد بالإيرانيين على أي محاولة إلتفافية، قد يقوم بها من هم تابعون لها في لبنان. بينما التفسير الأبرز لهذه المسألة، يندرج في إطار الضغط الممارس من قبل حلفاء حزب الله على الحريرين لدفعه إلى التنازل والإسراع في تشكيل الحكومة، وعدم الرضوخ إلى الشروط الأميركية.

في مقابل الضغط الأميركي من جهة، والإيراني من جهة أخرى، ثمة ضغوط أخرى يتعرض لها الحريري، من التيار الوطني الحرّ من ناحية، عبر فرض الثلث المعطل، والتحرك المسيحي لاستعادة الصلاحيات وتعزيز دور الرئاسة، ومن القوى المتمسكة باتفاق الطائف، والرافضة لتقديم تنازلات عن الصلاحيات من ناحية مقابلة. وهذه الأخيرة تتمثل بلقاءات متعددة، بدأت مع لقاء رؤساء الحكومات السابقين، ولم تنته في اللقاءات الدينية أو السياسية، التي كان آخرها بين وليد جنبلاط وفؤاد السنيورة. وارتكز عنوانها الأساسي على مبدأ حماية اتفاق الطائف.