اللاعبون الصغار في العراق معروفة أقدارهم، لكن ما يهمنا أن هؤلاء ارتهنوا العراق إلى مجموعة ميليشيات متهورة خلفها ما يُنبئ بتبرعات غزيرة من مصرف دم العراقيين كالمعتاد.
 

يبدو العراق ضائعا وتائها بعد 16 سنة من الاحتلال الأميركي، والأعمق أثرا في فهم هذا الضياع هو الاستدلال على مرجعيته في سنة 1979 بمجيء الخميني إلى السلطة في إيران بعد إسقاط الشاه في مثل هذه الأيام قبل 40 سنة مضت، لتكرس التحولات الخطيرة في إيران وكذلك العراق، وأيضاً في العالم باحتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان.

المتغيرات الإقليمية والدولية في العام 1979 وضعت على طاولة الأحداث خرائط عقود من الزمن كنتائج لسلسلة نشاط وحراك غير مدروس، اعتمد على صدفة ما تولده الصدمات المتتالية والمتشظية في كل الاتجاهات، بما جعلها خـارج السيطرة وأدت إلى حسابات مضادة كما حصل مع الاتحاد السوفيتي، أو في تخلي الغرب والولايات المتحدة عن الشاه، حليفها الإيراني، لصالح سياسي معارض بتوجهات عقائدية ليست خافية طبعا على الدولة الفرنسية التي استقر بها الخميني ومنها غادر إلى طهران.

تظل ثورة الخميني وخدمات التوصيل السريع لها موضع قلق وغموض عند قراءة ما أسفرت عنه من تفش لأمراض وأوبئة ضربت العالم ومنطقة الشرق الأوسط، لعل أخطرها ولادة الإرهاب وتمدده وما نتج عنه من عمليات جذّرت الإسلاموفوبيا بعد أن كانت العمليات الإرهابية ترتبط بالمجتمع الأوروبي وتحديداً بالمنظمات الراديكالية ونزعاتها الانفصالية أو السياسية، إضافة إلى أنشطة المافيات وصراعها على سلطة المال والاقتصاد.

بعد 40 سنة ثمة أصوات من داخل إيران تنتقد نزيف الدم للإيرانيين وتبذير الحياة في الحرب مع العراق والإصرار عليها رغم الوساطات والجهود الدولية في بداية أيامها وشهورها وسنواتها الأولى، والتي وافق العراق على جميعها لأسباب يراد طمسها الآن بحسابات انتهازية تتعلق بارتدادات ما جرى بعد نهاية الحرب.

لكن الحقائق تشير إلى أن العراق كانت له طموحات تنموية بدأ بقطافها وتنامى خوفه عليها مع اندلاع الحرب، إضافة إلى سبب مقنع جداً هو عدم وجود أي نية لاحتلال إيران لأن الأمر أقرب إلى الاستحالة بحكم الفارق في مساحة الجغرافيا وفارق كثافة السكان بين البلدين، ولعدم وجود أي طموحات لها دلالات سابقة في أهدافها.

الأمر معكوس تماماً من الجانب الإيراني بما أثبتته الوقائع بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وهذا لغير العراقيين من الذين يتابعون الأخبار بتجرد خارج سياقات التفاصيل.

وإذا كانت بعض أصوات الإيرانيين تعلو بجرد حساب الماضي في هدر دماء فتيانهم وشبابهم ورجالهم واقتصادهم في حرب احتلال الجار المسلم الذي ارتضى وقف إطلاق النار بعد أول مبادرة سلام، فما المانع من طرح السؤال الجوهري عن أسباب رغبة الخميني المستعرة في احتلال العراق منذ أيامه الأولى في السلطة بشواهد تداعيات سنة 1979 في العراق، بما فيها تحركات الأحزاب الطائفية باستهداف السلم الأهلي والمجتمعي بعمليات دموية أرخت لنشوء الإرهاب الإيراني.

هل الحرب على العراق خطأ أو رد فعل إيراني لاستفزازات عراقية على الحدود، أو حدثت بمبررات الدفاع عن الثورة الجديدة؟ كل ذلك يدحضه الدستور الإيراني في مبدأ تصدير الثورة إلى الخارج، وهو مبدأ وليس مجرد توصية أو أمنية لرجل دين كالخميني له مقلدون ومناصرون، وعلى رأس هذا الخارج طبعاً كان وما يزال العراق.

التجاسر في داخل إيران على إدانة نظام الخميني لإراقته دماء الإيرانيين في الحرب، دلالته أن الأصوات الإيرانية ترفض إطالة أمد الصمت والإبقاء على عض أصابع الندم في الاستسلام أو مجاراة النظام الفاشي الذي بطش بالإيرانيين من كافة القوميات والأديان والمذاهب، وسخّر اقتصاده وثرواته لتصدير ما يسميه الثورة، ويتفق ملايين الإيرانيين مع شعب العراق وشعوب المنطقة والعالم على تسميته بتصدير الإرهاب.

العراق بحدوده الشرقية البالغة 1450 كيلومترا يمثل مطمحا عقائديا لنظام ولاية الفقيه، بل وعلى رأس كل الطموحات، فالعراق غاية الغايات إن للخميني أو للخامنئي أو للنظام وحرسه الثوري، وما أقدمت عليه الولايات المتحدة بإدارة جورج بوش الابن إنما خدمة لا تقدر بثمن تضافرت على تحقيقها عوامل استراتيجية عديدة مهدت لحقيقة استلام إيران دفة الحكم في العراق، وتأسيس دولة الاحتلال الإيراني بأثر رجعي تطبيقاً لمنهج ووصية الخميني الذي يراد له أن لا يتجرع السم في انتقام بشع من فشل محاولته احتلال العراق رغم مأساة حرب الثمانينات.

تمهيداً لمؤتمر بولندا الدولي حول إيران وإرهابها يتناهى إلى العالم سماع أصوات الإيرانيين وهي تعلو وتتصاعد وتستغيث في الداخل. أصوات ظلت حبيسة القمع حتى قبل بدء الحرب مع العراق، وهذا يفسر تشكيل قوات الباسيج والحرس الثوري وأجهزة أمنية بصلاحيات متناهية، ويفسر أيضاً الزج بالشعوب الإيرانية في حرب مدمرة وطويلة مع العراق، لأن الهدف الدائم كان في تهريب المشاكل الداخلية إلى مشكلة أكبر وأعظم، تذوب فيها الأزمات حيث لا أحد يرفع صوته في قضايا أقل أهمية من الدفاع عن الوطن، ولتجربة العراقيين في الحرب على الإرهاب مثال صارخ في الهروب إلى الأمام بخلق الكوارث وزج الشعب فيها كبديل للخلاص من تظاهرات ومطالب لا تعرف السلطة كيف ستتسع أو كيف ستنتهي.

زيارة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إلى العراق تأتي في مرحلة الضياع التي تعصف بالعراق وفي وقت ترتفع فيها بنادق الميليشيات وأقلامها وفضائياتها وبرلمانييها وأحزابها، للدفع بالعراق إلى النصف الإيراني من الاحتلال لمواجهة العقوبات الأميركية، أو للتوسط بين الطرفين باعتبار إيران الجار الصديق أو الشقيق المسلم الذي وقف معه في محاربة الإرهاب.

مفارقة كبيرة أن يبدأ الوزير ظريف لقاءاته بطيفها الواسع الأهداف في حديث عن تعاون العراق وإيران في الحرب على الإرهاب، رغم أنه لا يحتاج إلى ما يؤكد عليه في ساحة مستباحة كالعراق تسعى فيها الكتل والأحزاب المتصارعة، على اختلافها، التصيد في أوحال الاحتلال الأميركي أو الإيراني الذي لم يعد يحتمل المناصفة في الولاءات بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات وسحب القوات الأميركية من سوريا إلى العراق، مع زيادة وتيرة تجهيز القوات الأميركية بالمعدات والتجهيزات والأفراد.

اللاعبون الصغار في العراق معروفة أقدارهم، لكن ما يهمنا أن هؤلاء ارتهنوا العراق إلى مجموعة ميليشيات متهورة خلفها ما يُنبئ بتبرعات غزيرة من مصرف دم العراقيين كالمعتاد.