السياسة الخارجية في العراق ملتبسة وخاضعة لميول حزبية أو رغبات من خارج الحدود، فكيف سيتمكن وزير خارجية لديه طموح مهني من العمل في هذا المناخ.
 

مرتكزات الدولة الحديثة هي في قوتها العسكرية والأمنية والاقتصادية وسيادتها على أرضها ونظامها السياسي المستند على رضا شعبي واسع. ومكانة الدولة لا تقاس فقط بمظاهرها المدنية والعمرانية في العمارات والشوارع ونظافة المدن، ولكن كذلك بمكانة سياساتها الخارجية عبر دبلوماسية محترفة وعصرية في المجتمعات الإقليمية والدولية.

للأسف جميع هذه المرتكزات غير متوفرة في عراق اليوم بسبب ما خلفته الأحزاب من كوارث ومصائب على العراقيين جميعا، إلى درجة أصبح فيها العراقي خارج وطنه يخجل في التعبير عن هذه الحالة وأسبابها. ولعل قضية الدبلوماسية العراقية واحدة من المسائل المتعلقة بشخصية البلد ومكانته بين دول العالم، وهنا نتحدث عن الجهاز المنفذ لتلك الدبلوماسية (وزارة الخارجية) فقد يكون أي نظام ضعيفاً أو محاصراً من الخارج، لكن امتلاكه لجهاز دبلوماسي معتبر يمكنه من فك الأطواق وتخفيف الضغوط وقد يسعى إلى إعطاء صورة تخفي قبح السياسات، وتكسّر أمواج الصدامات العاتية.

لهذا تعتز الدول بدبلوماسييها ولا تفرط بخدماتهم، بل تستدعيهم حتى وإن تقاعدوا لمهمات في مناطق ساخنة، وهذا ينسحب على كل الدول الصغيرة والكبيرة. ولا يوجد مبتدئ بالسياسة يستطيع القول بأن للعراق دبلوماسيته ما بين 2003 و2011 في ظل احتلال عسكري أميركي حتى وإن كان هناك جهاز تنفيذي اسمه وزارة الخارجية كانت غاية العاملين فيه الاستمتاع بالوظيفة الناعمة بعيداً عن نيران بغداد والمدن العراقية الأخرى. لكن بعد خروج قوات الاحتلال عام 2011 كان من المفروض أن تبدأ سياسة وطنية عراقية مستقلة بعيدة عن الضغوط والتأثيرات الخارجية، ومع أن ذلك لم يحصل لكنّ الثماني سنوات الماضية كانت كافية لوضع تقويمات عامة للدبلوماسية العراقية في جانبيها السياسي والإداري.

المشكلة السياسية في البلد هي غياب القرار المركزي الواحد بسبب تعدد مرجعيات الأحزاب رغم أن أحزاب الإسلام الشيعي هي الحاكمة من خلال رئيس الوزراء والطاقم الحكومي الرئيسي، كما أن البلد لا يتمتع بالسيادة التامة بعد أن انهارت أسواره وأصبح حقلا مشاعا لجميع أنواع ومراتب أجهزة المخابرات الأجنبية، والشارع الداخلي يعجّ بمختلف القوى والتيارات المسلحة والمؤثرة على القرارات السياسية العليا، إضافة إلى احتلال ثلث أرض العراق عام 2014 من قبل تنظيم داعش، فكيف تتوفر الحدود الدنيا لقيام دبلوماسية عراقية سليمة. ولهذا أصبحت نشاطات وزارة الخارجية في حدود العلاقات العامة البسيطة.

وهناك أمثلة كثيرة تعطي الانطباع بأن البلد مازال غير متمتع بالسيادة والاستقلال، وهناك فوضى بعيدة عن تقاليد الدول، ولعل المثال الأخير على ذلك زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للعراق التي تمت خارج حدود البروتوكول الدولي، وإذا قيل بأن ذلك قد جرى بسياق سابق منذ عهد الاحتلال، فإن الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لبغداد قد تمت خارج تلك الأعراف أيضا، فما علاقة رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي باستقباله للوزير الأميركي في المطار، فإذا كان وزير الخارجية غائبا فيمكن لأي وزير أو نائب رئيس وزراء أن يقوم بهذه المهمة، ألم يزر الوزير نفسه بعد بغداد عدة عواصم عربية وتم التعامل معه وفق البروتوكول التقليدي.

هناك أمثلة مؤلمة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها على المستوى السياسي، أما الأخطر فهو الطاقم الإداري لوزارة الخارجية الذي فقد تقاليد بنائه المعروفة في إعداد الكوادر الدبلوماسية من خلال معهد الخدمة الخارجية العريق الذي خرّج المئات من الكوادر منذ تأسيسه عام 1973، إضافة إلى نظام الخدمة الخارجية الذي وضع طرق الانتقاء الوظيفي للعمل في مناطق العالم حسب اهتمامات البلد. أما الآن فقد انعكست المحاصصة داخل الطائفة الواحدة والمحسوبيات لهذا المسؤول أو ذاك في التنافس على العواصم الكبرى في تعيينات السفراء، ثم الوظائف الأدنى في تخلّ مريب عن الكفاءات إلا ما ندر، لدرجة تعيين سفراء لا يمتلكون شهادات جامعية.

لكن هذا لا يعني عدم وجود كفاءات مهنية جيدة لبعض السفراء والدبلوماسيين داخل وزارة الخارجية. ولو توفّرت للأحزاب الحدود الدنيا من الحرص على سمعة البلد لتركت هذا المرفق يدار بمهنية تمنع نشر غسيل الدار إلى الخارج وتوفر له سمعة مقبولة، رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي قد حطمت الأسوار والأبواب الداخلية للبلدان. فالحادثة البسيطة في زاوية من مقهى أو جامع تتحول إلى خبر عالمي. ومثال ذلك الفيديو الذي سُرّب مؤخرا ويظهر فيه القنصل العراقي في مدينة مشهد الإيرانية يروج لمحل تجميل خاص في إهانة صارخة لمهنته ولبلده، ثم تم الإعلان عن استدعائه من قبل الوزير إلى بغداد، والمعروف أن الدبلوماسي كان سابقا يستدعى إلى بغداد ولا يعلم هو أو غيره سبب الاستدعاء. كان الموظف الدبلوماسي العراقي حريصا على تمتعه بالكفاءة اللازمة، وكنا نلاحظ بعض الموظفين وهم في واجباتهم بالسفارات يطالعون الكتب والتقارير لأنهم يعلمون بأن الامتحان ينتظرهم في بغداد. وكان البعض منهم يصرف من راتبه الكثير على إقامة الدعوات في الأوساط الدبلوماسية في منطقة عمله لأنه حريص على سمعة بلده، وليس قيامه بالمتاجرة بالسكائر والممنوعات الأخرى مثلما يحصل حالياً لدى البعض.

هناك خراب واسع شمل جميع مرافق الدولة يتطلب ثورة إصلاح شاملة وجريئة، ولا نريد الحديث عن وزارة الخارجية في عهدي الوزيرين السابقين، ولكن ما يلفت الانتباه أن الوزير المعيّن حاليا، محمد الحكيم، لديه مغامرة التغيير من خلال ما يعلنه عن عزمه إجراء إصلاحات إدارية لتغيير واقعها والانتقال بها إلى واقع أفضل، وأعلن بيانه بتاريخ 9 يناير 2019 بأنه سيحارب أبناء المسؤولين في السفارات إذا ما وجد مخالفات في التعيين قائلا “إن أولاد المسؤولين في السفارات ظاهرة معيبة وهذا يعود للتدخل السياسي في عمل وزارة الخارجية”. وهو كلام يدل على أن الرجل يريد أن يشتغل بمهنية وهو يمتلك تجربة ودراية بواقع السفارات العراقية، وهذا يؤشر على احتمالات إحداث التغيير إذا تمكن من تجاوز العزيمة والرغبة الصادقة إلى تطبيق برنامج فعلي لإنقاذ هذا المرفق الحيوي، وهناك الكثير من وسائل الإصلاح يتمكن من تنفيذها. لكن هذا الوزير لن يتمكن من ذلك من دون ظهير سياسي يحميه، وإلا فلا ضرورة للمغامرة لأن الأحزاب تتربص به حاليا إن لم يخضع لرغباتها، فهي قادرة على تلفيق الكثير من التهم ضده بغاية الإطاحة به.

مثال بسيط حصل هذه الأيام مترافقا مع إعلان توجهاته الإصلاحية بالوزارة، فقد أعلن في مؤتمر صحافي بأن العراق يؤيد حل الدولتين في القضية الفلسطينية، وهي سياسة لا ينفرد بها العراق فحسب، بل تتبناها كل الدول العربية وفي المقدمة منظمة التحرير الفلسطينية، فثارت ثائرة الأحزاب ومنها قائمة نوري المالكي التي طالبت وتوعدت الوزير بإقالته عبر البرلمان “لأنه خرج عن مبادئ تحرير فلسطين” ولم يمر على تعيينه شهران.

ألم نقل إن السياسة الخارجية في العراق ملتبسة وخاضعة لميول حزبية أو لرغبات من خارج الحدود، فكيف سيتمكن وزير خارجية لديه طموح مهني من أن يشتغل في هذا المناخ، وهل هو قادر على المساس بمصالح تلك الأحزاب في هذه الوزارة السيادية. لا شك أن طريقه صعب، وقد يعلن الاستسلام إلى سطوة الأحزاب، أو يعود إلى ملاذه في الخارج إن كان حريصا على مبادئه المهنية.