أنا اسمي... لا يهم

المهم أنك تسمع روايتي، استمع لها بقلبك، انظر لأبطالها، فكلهم متساوون في الأدوار، وأنت الآخر أحدهم...

أخبرني زميل أن أحدهم يريد زوجة صالحة، ويرى أن كلاً منّا يليق بالآخر، وطلب موعدًا لزيارة في المنزل، وحضر كلاهما في وجود الأب والأم والأخوة، وحصل القبول، واتفق الطرفان على إتمام الزيجة سريعًا بناء على رغبة هذا الأحدهم.

تراقص قلبي فرحًا، أخيرًا سأحيا كامرأة، ستتجول كل مشاعري الصامتة بحرية بين يديه كعصفور طليق. لا يهم إن كنت أحبه أم لا، الحب سيأتي بعد الزواج كما يخبرونني، سأهرب على الأقل من لقب "عانس". لقد منحني ثلاثة أسابيع لأنهي كل ما يتعلق بالزفاف، يجب في خلال هذا الوقت أن أتعرف إلى أبنائه الثلاثة، ألم أخبرك أن لديه ابنة وولدين، هو أرمل من ستة أشهر، ونصحه الأهل بالزواج. أخبرتني أمي أن لدينا أشغالاً شاقة، تتعلق بشراء بعض الأشياء الجديدة، لأن ما ابتاعته لي منذ سنوات نصفه تلف، والنصف الآخر لم يعد له استعمال.

في اليوم التالي للزيارة كان نوعًا من الفرح يلون منزلنا، وكلما نظر إليّ أبي وأمي ابتسما في ارتياح، اتصل هذا الأحدهم، وحدد موعدًا لرؤية الشقة، والاتفاق على اختيار الشبكة. وبالفعل ذهبنا، وبدأت أضع أحلامي المتواضعة في كل ركن، ورغم أنه أطلق يدي في اختيار كل ما أريد، وتغييره هو شخصيًا لو رغبت، فهو طوع أمري كما قال، تحركت أخلاقيات "بنت الأصول" في داخلي، وصرت قنوعة في اختياراتي، وتقريبًا لم أُغير إلا القليل. قابلت أطفاله في الشقة، اندمجنا سويًا، وداومنا على الخروج لأيام بعدها، اختفت نظرات القلق والخوف سريعًا من أعينهم، هم في حاجة إلى أم، وأنا في حاجة إلى الأمومة. بدت أمي المريضة كنحلة بين المنزل والمحال، وهي تكمل لي ما تبقى من جهاز العروس، وحاولت ألا تجهدني لأحتفظ بنضارتي وجمالي، كم أشفق عليها من المجهود.

أنهينا في وقت قياسي كل الترتيبات إلا القليل، سافر هو في مهمة عمل، وترك لي الأطفال لأعتني بهم، بخاصة أنه لن يكون هناك حرج من ذهابي إلى الشقة وهو ليس موجوداً، ولأطمئن في الوقت ذاته على ما طلبت تغييره. بدأت المشاعر تدغدغ قلبي، وجودي في مسكنه فتح لي الباب لأراه في كل ركن، لا أتذكر ملامحه، لكن أتذكر أنني لم أتضايق منه.

أية مشاعر تتوغل في داخلي إذن ولمن؟!

إنه ذلك الحرمان الذي توارثناه من جيل إلى آخر، فالفتاة لا يمكنها حتى التعبير عن إعجابها بأحد، كيلا تقع تحت مقصلة العيب، وإساءة الأدب، تُكبلها التحذيرات التي تزيد كلما زاد طول ضفائرها، تُحجمها حتى تكبر في حيز صغير غير مرئي. وفجأة يطلب منها الأهل أن تمارس كل المهارات الأنثوية لجذب أحدهم، وعندما تفشل في ممارسة كل ما لا تعرفه، تُجلد بسوط الكلمات الجارحة، متناسين أنهم من البداية حرموا هذا النوع من المعرفة.

استمر غيابه عشرة أيام، حضر بعدها لمنزله، ورأى وتنسم عبيرها يدفئ المكان، حتى إنها طهت طعامه المفضل، وملأت الثلاجة بكل ما يحب هو وأطفاله، وعلى مكتبه وضعت أوراق قبول الأطفال في المدرسة التي تعمل بها، ولم تكن تقبلهم لولا وساطتها.

قبل الموعد المتفق عليه اتصل والدي به، لكنه لم يجد ردًا، حاول الأخ، وزميلي الذي توسط في الموضوع، لا يوجد رد.

أحدهم اختطف فرحة عائلة بأكملها واختفى، عملية اغتيال صريحة لمشاعر الأب الصامت من يومها، ذبح لقلب أم تهالك ما تبقى من صحتها وهي تكمل جهاز ابنتها.

لا أحد منا يتحدث إلى الآخر في الموضوع، فقط نظرات متبادلة، يمتزج فيها الألم مع صرخة مكتومة، ودعاء لله كي يلهمنا الصبر. كنت أحاول التخفيف عنهم، والألم يأكل جسدي، وتضمر أعضاؤه، يكاد كل ما هو أنثوي يختفي بداخلي تبعًا لنظرية داورن، حتى قلبي بات يصغر ويضمحل بعد كل مرة ينكسر فيها الأمل بداخله.

النسيان لا أجرؤ عليه، إنه أمنية تتسم برفاهية تبخل بها الحياة عليَّ، فأطفاله أمامي كل يوم يلهون بلا مبالاة الأطفال الذين لم يدركوا بؤس الحياة بعد، بل بمجرد رؤيتهم لي يرتمون في هذا الحضن العاشق المحروم، كم من المرات التي قاومت سؤالهم عنه. غلب ألمي كرامتي وسألتهم، قالوا إنه مسافر، ويأتي لزيارتهم أسبوعيًا، وذهبوا للعيش مع خالتهم، مع عبارات اللوم لأني توقفت عن زيارتهم.

علمت من زميلي أخيرًا أن هذا الأحدهم تزوج، وكان يخجل أن يواجهني طوال هذه الفترة. تزوج قبل موعد الزفاف بعشرة أيام، أثناء سفره. قابل فتاة بدرجة أنثى، تنازل عن كل الشروط والمواصفات حتى الجمال الطبيعي، بهرته ألوان الأنوثة الصارخة، خطفته حتى من نفسه، لم تترك فرصة للمقارنة بتلك الفتاة الجميلة "المتربية" كما يقولون.

كنت أتجنب الذهاب إلى المنزل مبكرًا، لم أعد أحتمل ما أراه من ألم وانكسار في عيني أبي وأمي، وقدرتي على تمثيل تجاهل الموقف تُزيد الحمل على قلبي الضامر. جزء مني كان يتهمهم، ويتشفى في حزنهم، فما تم وأده بداخلي بأيدي العيب، وأن الخلاص دومًا يكمن في أحدهم، وليس لي موقع في الحياة بدونه، لم يمت، نما كوحش يُخيف الآخرين، ويزرع في قلبهم الأسى على أبنتهم الطيبة. أنا أسم من أسماء لأخريات لهن نفس الحكاية، أحدهم يأتي وينصرف ويأتي غيره، تاركين خلفهم أسرة زرعت بؤسها بيدها، وتتذوق ثماره.

كنت أنتظر حتى يذهب الجميع، وأجلس في فناء المدرسة ألهو بالرمال، وأتركها تتسرب من بين يدي، تتناثر في الهواء، تدخل في عيني، لأقنع نفسي أن كل تلك الدموع مصدرها حبة رمل.

حتى ظهر أحدهم... وقدم لي منديلًا

(سوسن الشريف)