بينما توحي مواقف دونالد ترامب بخطط لانسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، توحي مواقف جون بولتون وجولة مايك بومبيو بأن الأميركيين باقون في المنطقة، وربما ذاهبون إلى تطوير هذا التواجد.
 

يريد الرئيس الأميركي دونالد ترامب خروج القوات الأميركية من سوريا. جدية ما أعلنه في هذا الشأن من عدمه لا تبدو مهمة. ويعمل حرفيو الإدارة في واشنطن على تصويب الشطط الذي يصدر عن تغريدات الرئيس بما يتناسب حقيقة مع مصالح الولايات المتحدة، وبما لا يتعارض في الشكل البروتوكولي مع نصوص ترامب في البيت الأبيض.

باستطاعة المغرد أن يغرّد. سيقوم وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون بالتموضع وفق مصالح واشنطن التي لا يمكن أن تنسفها بخفّة تحولات سيد البيت الأبيض. وفي ما اعتمده بومبيو وبولتون من مواقف ما ينسف تماما ما أدلى به ترامب، وما يلتقي مع موقف وزير الدفاع المستقيل جيمس ماتيس. يأخذ ترامب علما بمواقف “الدولة العميقة” في بلاده، فيعيد تهذيب مواقفه، في رواية جديدة، على نحو يحافظ فيه على مبدأ الانسحاب على ألا يكون متسرعا متعجلا، وألا يكون على حساب هدف القضاء على تنظيم داعش كما الضغط لإخراج النفوذ الإيراني من سوريا.

يقرر ترامب إثر حديث هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان جرى في 23 ديسمبر الماضي سحب قواته من سوريا. بدا القرار مزاجيا شخصانيا فاجأ أردوغان نفسه. لم تصدق أنقرة أن واشنطن ستُطيعُ رئيسها في هواه. كانت في ذلك على حق. فما صدر عن بولتون من شروط لأي انسحاب أميركي جاء أقسى من بقاء هذه القوات. بولتون يطالب تركيا بضمانات لا تستطيعها، تحمي حلفاء واشنطن الأكراد. باتت حماية الحلفاء الأكراد في سوريا بالنسبة لواشنطن موازية في أهميتها للعلاقة التي يفترض أنها تاريخية بين تركيا والولايات المتحدة.

لا تريد واشنطن تقديم الأكراد وسوريا على طبق من فضة للرئيس التركي. وحتى إشعار آخر لا تعترف الولايات المتحدة برواية الأتراك حول إرهابية “قسد” و”وحدات حماية الشعب” الكردية. عرف أردوغان ذلك. رفض استقبال بولتون، واعتبر أن تصريحاته “غير مقبولة”، مضيفا أنه قد “ارتكب خطأ فادحا”.

جاء بولتون برفقة رئيس الأركان جوزيف دانفورد والمبعوث الخاص للتحالف الدولي جيمس جيفري. كان واضحا أن وجهات النظر متعارضة متخاصمة على نحو بعيد عن روحية الاتصال الهاتفي الشهير بين الرئيسين التركي والأميركي. تنفي أنقرة رواية ترامب حول ضمانات قدمها أردوغان لضمان أمن المقاتلين الأكراد بعد الانسحاب الأميركي من سوريا. أمر هذه الضمانات كان قد أعلن عنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أيضا. فهل كذب ترامب، أم أن واشنطن باتت تطالب ترامب، قبل أردوغان، بهذه الضمانات؟

تمثل جولة وزير الخارجية الأميركي في المنطقة عملية إنزال دبلوماسي هدفها تأكيد ثوابت السياسة الخارجية لواشنطن في الشرق الأوسط، بغض النظر عن أجندات ترامب وتغريداته. لترامب حسابات تتعلق بالضغوط المحلية المرتبطة بتحقيقات روبرت مولر، المحقق الخاص بملف التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتتعلق أيضا بالتعبيد لطموحاته الرئاسية في انتخابات عام 2020.

يحتاج الرجل إلى بناء جدران تعوضه عن إخفاقه في بناء جدار على حدود المكسيك. ويحتاج أيضا إلى دغدغة مشاعر ناخبيه بوعده الشعبوي بسحب القوات الأميركية من الخارج، سواء كان هذا الخارج أفغانيا أو سوريا، دون أي حديث عن تواجد هذه القوات في العراق مثلا. وفيما توحي مواقف ترامب بخطط لانسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، توحي مواقف بولتون وجولة بومبيو بأن الأميركيين باقون في المنطقة، وربما ذاهبون إلى تطوير لهذا التواجد.

يعلن أردوغان أن بلاده وحدها القادرة على العمل مع روسيا والولايات المتحدة في سوريا. لا تريد واشنطن وموسكو أن يكون لأنقرة هذه الرشاقة في اللعب على أوتار الخلاف الأميركي الروسي وتباين أجنديتهما في العالم، كما في سوريا نفسها. لسان حال روسيا والولايات المتحدة يقول إن التسوية السورية المتوخاة تأخذ بعين الاعتبار، أولا وأخيرا، المصالح العليا للبلدين، على أن تكون مصالح الدول الأخرى، ومنها تركيا، ملحقة تابعة لا تملك أن تمارس ابتزازا يتعارض مع تفاهمات الكبار، كما لا تملك أن تتجاوز خطوطا حمراء في غياب هذه التفاهمات.

تعيد مؤسسة الحكم الأميركي الإمساك بقرار الدولة الحقيقي في شأن له علاقة بالأمن الاستراتيجي. من غير المسموح أن تقرر دردشة شخصية بين ترامب وأردوغان مصير التواجد العسكري الأميركي في سوريا، كما لم يكن مسموحا أن تقرر الدردشة السرية التي جرت خلف الأبواب في هلسنكي في يوليو الماضي بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خارطة طريق أخرى لطبيعة العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة.

يبدو غضب أردوغان ضد بولتون ممثلا لغضب الرئيس الأميركي ربما ضد مستشاره للأمن القومي. رفض الرئيس التركي استقبال الزائر الأميركي، فيما الرئيس الأميركي مضطر للاستماع مليا إلى مستشاره كما لعتاة المؤسسة الحاكمة في وزارة الدفاع وأجهزة المخابرات ووزارة الخارجية.

ترسل الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إشارات متسارعة تكشف عن ثبات سياساتها بالنسبة لسوريا. تعجل تلك الدول بمواقف متتالية ترفض عودة سفاراتها إلى دمشق، وترفض أي تطبيع يفهم منه قبول بأمر واقع تريده موسكو، ولا تعارضه أنقرة. قيل إن قوات عربية قد تنتشر لتعبئة الفراغ الأميركي المحتمل في سوريا، قبل أن تنفي الدول المرشحة لهذا الانتشار أمر ذلك.

تراقب روسيا السجال الأميركي التركي بانكفاء واضح. لا يضير موسكو أن يعاد تسعير الخلاف بين أنقرة وواشنطن علّ في الأمر ما يبعد أردوغان عن أطلسيته ويقربه من أوراسيا العزيزة على قلب زعيم الكرملين. تراقب روسيا الموقف الأميركي تجاه تركيا بصفته معركة تخوضها الولايات المتحدة بالنيابة عن روسيا. فإذا ما حدث أن انسحب الأميركيون من سوريا، فالأحرى أن يرث الروس هذه التركة وألا تسقط بغباء في يد الأتراك، وإلا فالأجدى ألا ينسحب الأميركيون وأن يبقوا حاضرين داخل المشهد حتى نضوج تفاهمات روسية غربية تعيد تعريف سوريا المقبلة في السياسة والموقع والجغرافيا والثروات. بدا أن الأكراد في سوريا أدركوا ذلك أو أُوحي إليهم هذا الإدراك. أي انسحاب أميركي يكون بديله وجودا روسيا سواء كان مباشرا أو من خلال قوات نظام دمشق.

لن تهاجم أنقرة الأكراد دون ضوء أخضر أميركي. فشل مهمة بولتون أتاح تحركا عسكريا روسيا حول مدينة منبج. أسقط بولتون ما سطّره أردوغان على صفحات نيويورك تايمز قبل أيام. لن يكون الأتراك بديل الأميركيين وورثتهم شرق الفرات.

لم يأت بولتون إلى تركيا، مرورا بإسرائيل، من أجل أن يكمل مع الأتراك تفاهمات عقدها ترامب وأردوغان هاتفيا. تقصّدَ الرجل تفخيخ محادثاته مع الأتراك بشروط أطلقها من إسرائيل. بدا أن الرجل يرفع من سقف شروط “الأمن القومي الأميركي” في أنقرة من أجل إحباط ما تواطأ الرئيسان التركي والأميركي بشأنه. عاد بولتون إلى بلاده وفي ذهنه أنه نجح في مهمته، وأن النبرة العالية لخطاب أردوغان الغاضب كفيلة بتأجيل الانسحاب من سوريا، وربما، أيضا، بإلغاء هذه الفكرة من أساسها. ربما حريّ الآن مراقبة تغريدات ترامب المقبلة.