ثمة ظاهرة مثيرة للدهشة في لبنان، هي في الواقع خليط بين ظاهرتين، هما الإصرار على إنكار الحقائق، حتى الجليّ منها، والرغبة الدائمة في ابقاء البلد «حرفاً ناقصاً» في التحوّلات التي يشهدها الإقليم، والتي تنسحب، كما هي الحال منذ القِدم، على الداخل.
 

واضح ان الطبقة الحاكمة في لبنان قد اختارت تطبيق «ساديتها» على شعبها، وهو امر لم يعد أحد، حتى من رموز السلطة الحالية، ينكره، هو في الحقيقة مرض عضال يتجلى بأوضح ارباكاته وأعراضه السلوكية، سواء حول الملف الحكومي، أو حول التطورات الإقليمية، التي تشهد يوماً بعد يوم تحوّلات ومتغيّرات دراماتيكية، يُخشى أن تجعل لبنان يدفع ثمن السلم، تماماً كما دفع ثمن الحرب.

مرضٌ، استولد توصيفات لاذعة على ألسنة الناس؛ عاصفة مناخية حضرت ليومين فقط، فجعلت الدولة مسخرة، وحوّلت لبنان دولة برمائية كئيبة لم تعد تحتاج الى حكومة تصريف اعمال تدير شؤونها، بقدر ما صارت تحتاج الى حكومة تصريف مياه!

والأنكى من كل ذلك أنّ العاصفة مرّت مع ما خلّفته من اضرار ووجع، وكأن شيئاً لم يحصل؛ وفي النتيجة أسقطت «نورما» الطاقم الحاكم في الامتحان، وها هي شقيقتها «ترايسي» مقبلة بعد يومين لتضعه أمام امتحان آخر، أو بمعنى أدق، تقوده الى سقوط آخر.

واذا كان هذا الطاقم قد فشل في عبور نفق عاصفة مناخية مؤقتة ومتوقعة أصلا، فمن الطبيعي لهذا الطاقم ان يعلق في لعبة حكومية فاشلة منذ منتصف العام الماضي؛ إحداث نفق لتصريف المياه تمّ بشقّ النفس، فكيف لنفق حكومي مسدود بالكامل، يتطلّب فتحه توافر العدد الكثير من آليات الحفر، للنفاذ منها الى تشكيل حكومة، وهذه الآليات غير متوافرة حتى الآن، أو بالأحرى ممنوع أن تتوافر!

صارت الحكومة فعلاً ماضياً ناقصاً على حد تعبير الرئيس نبيه بري، وصاحب «الفضل» الأول في جعلها تذهب الى هذا المكان، هو السلوك السائد منذ ايار الماضي، بمعاييره العشوائية التي اعتُمدت في توزيع الوزارات، وبشعور بعض الأطراف بالزهو الرئاسي و«فائض قوة» مكّنه من فرض «قواعد تعطيل» لكلّ ما هو في غير مصلحته، وعلى سائر المكونات السياسية - بلغة تشبه الأمر - الإلتزام بها، و«الثلث المعطّل» أغلى من الحكومة كلّها، والحصّة الرئاسية مقدّسة، ويدعم هذا المنطق بولادات متتالية لأفكار وطروحات تطلب الخبز من افران الآخرين، واما خبزنا فلنا وحدنا. هنا تكمن المصيبة.

ثمة من يسأل: «إذا كان الفريق الحاكم قد فشل في تجاوز استحقاق الحكومة، فماذا عن الاستحقاق الأكبر والإستثنائي المتعلق بالقمّة الاقتصادية المُزمع عقدها في لبنان بعد عشرة ايام؟».

ويجيب: « مع بقاء هذا السلوك التعطيلي، فمن الأكيد أنّ لبنان سيذهب إلى القمّة التي ستُعقد في بيته - هذا إذا عُقدت- كغريب عنها، وسيدخل إليها أعرجَ، بسلطة تنفيذية ناقصة حتى لا نقول اكثر من ذلك. فتأليف الحكومة، حتى ولو تمّ على باب القمة، يحقن لبنان بشيء من المعنوية، لا بل ببعض «الهيبة» في القمة وأمام من سيحضر إليها من القادة العرب، ويمنحه فرصة جديدة لاستعادة نفسه، وكذلك دوره في المشهد العربي، لكن خلاصة الامر أن لا حكومة في المدى المنظور، في ظل الاصرار على السلوك ذاته وتعطيل تشكيل الحكومة، بألاعيب سياسية صبيانية، تجعل التنازل عن حقيبة وزارية لتحقيق المصلحة الوطنية العليا أمراً من سابع المستحيلات.

قد تبدو دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تأجيل القمّة، آتية من موقع الحث على التعجيل بتشكيلها، الحكومة، على اعتبار انّ الفرصة ما زالت سانحة لهذا الامر على باب القمّة، بما يُدخل لبنان إليها بكامل معنوياته وهيبته السياسيّة والرسمية. الا أنّ هذه الدعوة في حقيقتها، كما يقول بري:

- جاءت رافدا لموقف رئيس الجمهورية، وليست، كما حاول البعض تصويرها على انها موجهة ضده، فهي ليست كذلك على الإطلاق.

- جاءت كمخرج لتوفير ظروف إنجاح هذه القمّة، وخصوصاً على مستوى المشاركة فيها، لكي لا تأتي هذه المشاركة هزيلة، والمعلومات المتوافرة تفيد بعدم حضور قادة عدد من الدول، وفي الوقت نفسه مجيء رؤساء الحكومات متعذر لأن لا وجود لنظير لهم بكامل صلاحياته في لبنان، نظرا لعدم وجود حكومة كاملة المواصفات، وبالتالي قد يكون الحضور دون هذا المستوى، ما يعني اننا سنكون امام حضور هزيل، وهذا لا يسيء فقط للبنان، بل للقمة نفسها، ما يعني انه ينسفها سلفاً.

- جاءت من قناعة أنّ الشرط الأساس لنجاح أي قمّة، هو توفير الحد الأدنى من التضامن العربي الذي لا يبدو متوافراً قبل أيام من انعقادها في بيروت.

ومن هنا كانت دعوتي الى تأجيل القمة الاقتصادية شهرين، لأنني أملك معلومات اكيدة بأن تونس التي ستستضيف القمة العربية في آذار المقبل، ستوجّه الدعوة الى سوريا للمشاركة فيها بمعزل عن اي اجراء متخذ من قبل بعض الدول في الجامعة العربية. إضافة الى ان الاتحاد البرلماني العربي الذي سينعقد في اذار المقبل في الاردن، سيوجه الدعوة ايضا الى سوريا للمشاركة في اجتماعاته.

- جاءت لكي لا يقع لبنان في المحظور بعقد قمّة اقتصادية تغيب عنها سوريا. وتناقش فيها مسـألة اعادة اعمار سوريا، فكيف يمكن عقد قمة تعني سوريا وفي غياب سوريا، التي يجب ان تدعى اليها. ومصلحة لبنان لا تكمن فقط في دعوتها الى القمة، بل مصلحته الكبرى هي في الانفتاح عليها، وهو امر لا مفرّ منه في نهاية المطاف.

يتقاطع موقف بري هذا، مع ما يُنقل عن أحد كبار رجال الأعمال اللبنانيين حيث يقول: قد تشكّل إعادة اعمار سوريا فرصة ذهبية للبنانيين، وكثيرون يعتقدون ذلك، حتى خصوم سوريا في لبنان.ولعاب الكثير من الشركات بدأ يسيل على ما تسمى مرحلة الاعمار، ولكن، ثمة إشارة غير مطمئنة وردت على لسان مسؤولين سوريين قبل أشهر، تقول بأنّ شركاء سوريا في عملية إعادة الإعمار هم من قدّموا الدعم لها في معركة صمودها، ولن ينال الآخرون سوى الفتات.

هذا الكلام، يضيف رجل الأعمال المذكور، لا يجوز المرور عليه مرور الكرام، بل ينبغي التعمق فيه ومحاولة استدراك الموقف من قبل الدولة اللبنانية.

لذلك، وحتى لا يكون لبنان من بين من قد يحصلون على الفتات، فثمة حاجة إلى تعديل مسار البوصلة اللبنانية في اتجاه الإنفتاح على دمشق. فكما هو واضح وأكيد، انّه من دون التفاهم معها، لن يكون للبنانيين وشركاتهم، تواجد فيها لحظة جني ثمار الإعمار».