من الاعتقادات المتداولة في الكتابات التاريخية الحديثة أن صلاح الدين الأيوبي (1174–1193 م) حين حكم مصر وألغى الخلافة الفاطمية (909 - 1171)، دمّر كلَّ كتب الفاطميين الشيعيّة، كجزء من الحرب التي شنّها على كل ما هو فاطمي شيعي، باعتباره سنّي المذهب.
 
يقول فرهاد دفتري Farhad Daftary في كتابه "A Short History of the Isma‘ilis ــ تاريخ قصير للإسماعيلية" إن الأيوبيين السُنّة الذين خلفوا الفاطميين في مصر دمّروا المكتبات الفاطمية الشهيرة في القاهرة، والتي كانت تحوي ما يزيد عن مليون ونصف مليون كتاب، في علوم شتّى.
يعتبر دفتري المتخصّص في تاريخ الشيعة الإسماعيليّة، واحداً من الذين قدّموا هذا الرأي. ويعدّد المستشرق برنار لويس، العديد من الآراء التي تسير في نفس الاتجاه عبر كتابه "صلاح الدين والقتلة".
 
هذا الاتجاه نابع من حقيقة تاريخيّة تؤكّد أن صلاح الدين الأيوبي، الرجل الذي تولّى الوزارة في الدولة الفاطميّة، في عهد الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله (تـ. 1174م)، هو من انقلب على الفاطميين، وأمر بإلغاء الدعاء للخليفة الفاطمي على المنابر، والدعاء للخليفة العباسي.
أسقط صلاح الدين الخلافة الفاطميّة التي كانت قد وصلت لضعف شديد، وكانت أجزاء كبيرة من الدولة قد انفصلت عنها، بعد أن امتدّ نفوذها من المغرب إلى موريتانيا، وكان الخليفة الفاطمي في القاهرة قد تحول لمجرّد صورة، وكان الحكم الفعلي بالدولة في يد الوزير الأوّل.
 
وبعد 3 سنوات من تولّيه الوزارة، نصب صلاح الدين نفسه سلطاناً، ليؤسّس دولته (شملت مصر والشام والحجاز واليمن) التي كان الحكم فيها وراثياً لعائلته الأيوبية (1174 م – 1252 م)، تحت راية الخلافة العباسية في بغداد.
أعدّت الباحثة في الدراسات العربية والشرق أوسطية بجامعة ليدز البريطانية فوزيا بورا Fozia Bora، دراسة بعنوان " Did Salah al-Dın Destroy the Fatimids’ Books? An Historiographical Enquiry - هل صلاح الدين دمّر كتب الفاطميين؟ تحقيق تاريخي" اتجهت خلالها إلى أن تدمير صلاح الدين لكتب الفاطميين مجرّد أسطورة، وأن الكتب الفاطميّة استمرّت متداولة لما بعد العصر الأيوبي نفسه.
 
تدمير فاطمي سبق صلاح الدين
كان الفاطميون شغوفين بجمع الكتب ودعم العلم في موضوعاته المختلفة؛ فالخليفة العزيز بالله (تـ. 966م) أمر بإنشاء دار للعلماء بجوار جامع الأزهر، وأمر لهم برواتب شهرية تكفل لهم عيشاً كريماً.
وكان هؤلاء العلماء خليطاً من الشعراء والأدباء والفقهاء والفلاسفة، وكانوا يجتمعون بالأساس في منزل الوزير يعقوب بن كلس، وتجرى بينهم المناظرات والنقاشات، فقرّر العزيز بالله دعمهم، بحسب ما ذكر المقريزي في خططه.
 
وفي عهد الحاكم بأمر الله وتحديداً عام 1005م، تأسّست دار الحكمة، التي كانت مركزاً علمياً مهماً، في التأليف والترجمة، وفي علوم لم تقتصر على الدعاية للمذهب الشيعي الإسماعيلي، بل لم تقتصر على التأليف الديني وحده وإنما امتدّت إلى علوم شتى، وقيل إن عدد الكتب بها تجاوز مليون و600 ألف مجلد، منها 100 ألف مجلّد فاخر الطبع والتجليد، ولم يكن في ديار الإسلام دار أعظم منها في وقتها، بحسب المقريزي. إن كانت هذه الأرقات تبدو مبالغة لا تصدق، يمكن أن نفهمها كدلالة على الاهتمام بالانتاج المعرفي ووفرته.
إلا أن المكتبات الفاطمية الملكيّة لم تكن تتمتع بوجودٍ مستقرّ، وفي أكثر من مرّة تمَّ نهبها، من أجل كنوزها، بدافع من الاحتياجات الماليّة والسياسيّة، وكانت أخطر هذه الحوادث هي الشدّة المستنصريّة، تلك المجاعة التي امتدّت لسنوات في أواسط القرن الحادي عشر الميلادي.
 
بسبب المجاعة اضطرَّ جنودٌ ومسؤولون لم يتقاضوا رواتبهم من الدولة، إلى نهب مقتنيات القصور الفاطمية، بما في ذلك مجمع المكتبات الملحق بقصر الخلافة (الخارجي)، من أجل بيع تلك المقتنيات والكتب، بحسب ما جاء في مصادر مختلفة.
 
 
هل قصة تدمير صلاح الدين لكتب الفاطميين هي مجرّد أسطورة؟ وكيف نفسر الأدلة التي تشير إلى إنّ الكتب الفاطميّة استمرّت متداولة لما بعد العصر الأيوبي نفسه؟ 
 
ومن سخرية القدر، أن هذا الفعل 
هل قصة تدمير صلاح الدين لكتب الفاطميين هي مجرّد أسطورة؟ وكيف نفسر الأدلة التي تشير إلى إنّ الكتب الفاطميّة استمرّت متداولة لما بعد العصر الأيوبي نفسه؟ 
التدميري هو أيضاً مؤشر على التقدير الكبير الذي حظيت به الكتب، التي أُنتجت في العصر الفاطمي، حيث كانت تجد من يقدّرها ويدفع الأموال في سبيلها.
 
وحين جاء صلاح الدين كان مجمع مكتبة قصر الخلافة (الداخلي) هو المجمع الرئيسي الذي بقي سليماً، وهذه المجموعة هي التي يُتّهم صلاح الدين بتدميرها بشكل متعمد.
 
كيف تعامل صلاح الدين مع الكتب الفاطمية؟
عماد الدين الأصفهاني، ابن أبي طي، ابن شداد، ابن الأثير، ابن خلكان، ابن الفرات، ابن خلدون، المقريزي، ابن تغر بردي، مؤرّخون وثّقوا تلك الفترة، واتفقوا جميعاً على أن صلاح الدين وجد مجموعة كتب هائلة، من بين كنوز أخرى في قصر الخلافة الفاطمي، لكنهم اختلفوا على حجمها، أو طرق التخلّص منها على نطاق واسع.
 
ابن الطوير صاحب كتاب "نزهة المقلتين في أخبار الدولتين"، وهو مسؤول فاطمي سابق، عاصر صلاح الدين وعمل معه، قدّم أقدم وصف موجود لمجموعة الكتب التي وجدها صلاح الدين، وأُخذت عنه روايات متفرقة في معظم المصادر اللاحقة، لكنه لم يذكر مصير كتب الفاطميين، رغم أنه شهد فترة الانتقال من الحكم الفاطمي إلى الأيوبي، وخدم الإدارتين الأيوبية والفاطمية.
 
أما أقرب المؤلفين لفترة الانتقال من الدولة الفاطمية إلى الأيوبية فكان عماد الدين الأصفهاني، سكرتير صلاح الدين الخاص، وأحد كبار مستشاريه والمتحدثين باسمه، فيشير إلى أنه حصل على كتب من تلك المجموعات عام 1176م، وذلك بحسب روايات مفصّلة، نقلها عنه المؤرخ أبو شامة المقدسي (تـ. 1267م) في كتابه "الروضتين في أخبار الدولتين الصلاحية والنورية".
 
ما ذكره الأصفهاني حقيقة، يدعم التأكيد على أن صلاح الدين قد باع الكتب في وقت استغرق عشر سنوات تقريباً، وفقاً لأبو شامة، وكانت تلك الكتب تُعرض للبيع مرّتين أسبوعياً، خلال ست سنوات على الأقل، بعد استيلاء صلاح الدين على الحكم. 
 
كذلك ينقل أبو شامة عن ثاني أقرب هؤلاء المؤرخين زمنياً إلى تلك الفترة، وهو المؤرّخ الشيعي ابن أبي طي، الذي تحدّث عن أن القاضي الفاضل، حصل على أغلب تلك الكتب. وكذلك نقل عنه تقي الدين المقريزي في تاريخه.
 
هذه الروايات تقوّض نظرية التخلّص المباشر بالجملة أو التدمير العمدي للكتب الفاطمية، بمجرد سقوطها في أيدي الأيوبيين.
 
وفقاً للمصادر، فإن الاحتمالات التالية تفسّر مصير تلك الكتب:
 
1- بيعت العديد من تلك الكتب، بحسب عماد الدين الأصبهاني، وابن خلكان.
 
2- عبدالرحيم البيساني المعروف بـالقاضي الفاضل، الذي كان مسؤولاً رفيع المستوى في نهاية العصر الفاطمي ووزيراً في عهد صلاح الدين، أخذ من تلك الكتب ما يستطيع، ثم باع صلاح الدين أو وهب ما تبقى منها، ثم تمّ استرجاع الجزء الذي تمّ التخلص منه لاحقاً وبيع للجمهور، بحسب ابن أبي طي.
 
3- بيعت كل الكتب، بحسب ابن الأثير.
 
4- وهب صلاح الدين كلّ كتب وكنوز الفاطميين واستبقى على جزء منها لنفسه، بحسب القاضي بن شداد.
 
5- نقل بعضها إلى دمشق (محمّلة على 8 جمال)، وبيعت بعضها، ووُهبت أخرى للمهتمّين بها، بحسب ابن الفرات.
 
6- سمح صلاح الدين للقاضي الفاضل بأخذ كل ما يلزمه ويريده منها، ولم يعرف مصير بقيتها، بحسب ابن خلكان، والمقريزي، وابن تغري بردي.
 
من تلك الروايات، جمع ابن الفرات أقرب الأحداث التاريخيّة، وأكثرها قربا لزمن وقوعها، في سبعينيات القرن الثاني عشر، عن سلفه أبو شامة المقدسي، الذي ربط بين روايات شهود العيان ليخرج بتصوّر لسياسات صلاح الدين المبكرة.
 
أحد هؤلاء الشهود هو أمير يدعى شمس الخلافة، وكان والده يعيش في ظلّ حكم الفاطميين، ونقل رواياته عن تلك الفترة إلى ابنه. ونقلت روايات شمس الخلافة إلى كلّ من أبو شامة وابن الفرات، عن طريق الشيعي الحلبي ابن أبي طي، إلى جانب مصادر مصريّة أخرى.
 
ابن أبي طي، هذا الرجل الشيعي المذهب، الحلبي الموطن، كان بعيداً عن مصر والصراع السنّي الشيعي فيها، وبالتالي جعل ذلك روايته للأحداث تحظى باستقلاليّة ومصداقيّة أكبر، وهو إذا انحاز فيفترض أنه سينحاز ضدّ صلاح الدين، باعتبار مذهبه، ولكن في الواقع ذكر أن القاضي الفاضل حصل على جزء كبير من الكتب الفاطمية، وهي رواية متواترة في كتب أيوبيّة ومملوكيّة، وهي الرواية التي تدعم عدم تبييت صلاح الدين لنيّة تدمير الكتب الفاطميّة.
 
القاضي الفاضل.. أداة محوريّة في الحفاظ على الكتب الفاطميّة
و ينقل ابن أبي طي عن شمس الخلافة أن بعض الثروة التي خلّفها الفاطميون قد وزّعها صلاح الدّين بين رجاله، وباع الكثير من الباقي، بما في ذلك محتويات دار الحكمة التي اشتهرت آنذاك في العالم الإسلامي، ومجموعة الكتب التي بقيت في قصر الخليفة الفاطمي، والتي نجتْ من السلب والنهب الذي جرى في الشدّة المستنصريّة، بحسب ما نقل أبو شامة المقدسي.
 
وقال شمس الخلافة إن تلك الكتب التي سقطت في يد صلاح الدين عام 1171م، زادت عن مليون كتاب. ثم يعيد أبو شامة المقدسي بناء الأحداث، وتسلسلها على النحو التالي:
 
1- القاضي الفاضل جَرَدَ كلّ الكتب وأخذ كمية كبيرة منها.
 
2- فصَلَ صلاح الدين أغلفة الكتب المتبقية من التي كانت في حالة جيدة وباعها، وألقى الكتب غير المجلّدة في بحيرة.
 
3- بيعت كميات أخرى لمن يشتريها من العامّة في فترة استغرقت 10 سنوات.
 
4- عندما علم الناس بأمر الكتب التي أُلقيت في البحيرة استعادوها، توقيراً لها.
 
ويسمح التسلسل الموصوف هنا، باستنتاجات مبدئيّة، وهي:
 
1- لم تكن طريقة صلاح الدين في التعامل مع كتب الفاطميين مخططة، أي لم تكن لديه نيّة تدميريّة، ونلمس ذلك من سماحه للقاضي الفاضل بأخذ كل ما يريده منها.
 
2- ولكنّه في نفس الوقت لم يكن مكترثاً بقيمتها العلميّة، لدرجة أنه كان يبيع أغلفتها للانتفاع بقيمتها الماليّة.
 
3- استرداد الجزء الأخير من الكتب، والذي أُلقي في البحيرة (غالباً من قبل أناس عاديين، أو تجّار، أو طلّاب علم) هو أمر هامّ، فرغم أننا لا نملك أدلّة على إعادة نَسْخ تلك الكتب المبلّلة، ولكن بقاء نسخ من تلك الكتب في أيدي الناس خلال العصر المملوكي يوحي بإمكانية ذلك.
 
أين ذهبت الكتب بعد ذلك؟
أنشأ القاضي الفاضل مدرسة في القاهرة، سمّاها المدرسة الفضيليّة، ووضع جزءاً كبيراً من الكتب بها، وكانت تلك المدرسة التي افتتحت في 5-1184م، تضمّ مكتبة ضخمة "ربما الأكبر في مصر وقتها"، قدّرت الكتب الفاطميّة بها وحدها بحوالي 100 ألف كتاب، بحسب المقريزي.
 
وبعد أكثر من مائة عام على إنشاء المدرسة، وبعد زوال الحكم الأيوبي، وقيام الدولة المملوكيّة بأكثر من 40 عاماً، وتحديداً في 5-1294م، وقعتْ مجاعة، أجبرت الطلاب على بيع أصول المكتبة مقابل الغذاء.
كذلك فإن بعض تلك الكتب خرجت من القاهرة إلى دمشق، حين تبرّع القاضي الفاضل وابنه الأشرف بها إلى دار الحديث الأشرفية في دمشق.
 
لم يكن القاضي الفاضل شخصاً عادياً، فقد كان صاحب فضل على صلاح الدين، فهو من ساعده في الاستيلاء على حكم مصر، وكان له دور حاسم في ذلك، وظلّ في خدمة صلاح الدين ومستشاراً له لمدة 22 عاماً؛ فصلاح الدين لم يملك مصر بالقوة العسكريّة، وإنما "بقلم القاضي الفاضل"، كما قال صلاح الدين نفسه.
 
خطاب تعيين صلاح الدين كوزير أوّل للخليفة الفاطمي أعدّه القاضي الفاضل، وقيل أنه كان مكتشف المؤامرة التي دبّرها الفاطميون لاغتياله، بعد تولّيه الوزارة، ونبّهه إليها.
 
وقد يقال إن القاضي الفاضل قدّم خدمة إلى صلاح الدين بالإضافة إلى سعيه إلى تحقيق مصلحة شخصيّة، فيما يخصّ الكتب، وبالطبع كان الأمران متشابكين بشدّة: لقد سهّل على ما يبدو إزالة الكنز الواسع من الأصول الأدبيّة الفاطميّة من تحت أنف النظام الوليد، والتي كانت تمثل الإنجازات الفكريّة والثقافيّة لسلفه، وفي الوقت نفسه ضمن حمايتها وبقائها.