شهد لبنان مع نهاية 2018 وبداية 2019 تحرّكات شعبيّة حملت مطالب إجتماعيّة وإقتصاديّة وسياسيّة. ومن المتوقعّ ان تستمر هذه التحرّكات وتتكثّف. الداعون الى هذه التحرّكات او منظّموها تجمّعات مدنيّة (بيروت مدينتي، طلعت ريحتكن، لحقي، شبكة مدى، السترات الصفر)، تجمّعات شبابية وطالبيّة وغيرها، احزاب (الحزب الشيوعي، حزب سبعة، احزاب من 8 آذار)، ونقابات (الاتحاد العمّالي العام).
 
تنوعت المطالب بحسب الداعين اليها: تغيير السياسات الإجتماعيّة والإقتصاديّة ورفض تطبيق مقررات سيدرا (الشيوعي)، تأليف الحكومة فورًا (الاتحاد العمّالي العام، حزب سبعة...)، مطالب اجتماعية اقتصادية محدّدة (طلعت ريحتكن، بيروت مدينتي)، العدالة الإجتماعيةّ (السترات الصفر). كذلك تنوّعت أشكال التحركات: مسيرات وتظاهرات (الشيوعي)، اضراب (الاتحاد العماّلي العام)، اعتصامات (السترات الصفر) مسيرات متوقعة (بيروت مدينتي، طلعت ريحتكن، تجمعات شبابية وطالبيّة).
 
ليس مستغربًا ان تتعدّد التحرّكات، بل المستغرب تأخّرها نظرًا لتفاقم الأزمة منذ بداية سنة 2018. وليس مستغربًا أيضًا ان تتعدّد المطالب، فالازمة شاملة، إجتماعيّة وإقتصاديّة وسياسيّة.
 
وإذا كان منظّمو التحرّكات مجمعين على ان الدافع الى التحرك الفوري هو ان البلد مهدّد بانهيار مالي وإقتصادي قريب، إلاّ انهم يختلفون على تحليل مسببات الازمة وعلى الحلول الناجعة لمعالجتها.
البعض (الاتحاد العمّالي العام وبعض الاحزاب) يعطي الأولوية لتشكيل الحكومة، على أساس ان لا إمكان لأي معالجة بدون سلطة مسؤولة ذات صلاحيات تنفيذيّة.
 
البعض الآخر (الحزب الشيوعي وبعض الاحزاب والقوى المدنيّة) يركّز على ضرورة تغيير السياسات الإقتصاديّة-الإجتماعيّة التي أدّت الى الوصول الى مخاطر الانهيار. ولا تطرح هذه القوى مسألة تشكيل الحكومة من ضمن مطالبها.
 
هناك ثلاث فرضيات تفسّر ربما غياب مطلب تأليف الحكومة عند هذه القوى.
 
الفرضية الأولى الأقل إحتمالاً، هي ان حكومة تصريف الأعمال يمكنها ان تلبي هذه المطالب.
 
الفرضية الثانية هي ان تشكيل حكومة جديدة لن يغيّر في السياسات الإقتصاديّة الإجتماعيّة، فهذه الحكومة الجديدة ستكون على شاكلة سابقاتها. والسؤال في هذه الحال، على من تعوّل هذه القوى إذاً لتغيير السياسات؟ ليس طبعا على مجلس النواب الذي يشكّل بتركيبته صورة مكبّرة عن الحكومة.
 
من هنا الفرضية الثالثة، وهي انه بالنسبة لهذه القوى لا حل حقيقياً للأزمة بدون التخلّص من النظام الطائفي ونموذجه الإقتصادي الذي يولّد كل هذه الازمات ويمنع جميع محاولات التغيير. وقد كرّرت قيادة الحزب الشيوعي مرات عدة ان لا اصلاح إقتصاديا بدون إصلاح سياسي.
 
لكن تغيير النظام الطائفي يتطلّب عملاً ضخمًا ووقتًا طويلاً، فكيف السبيل الى تحقيق ذلك والانهيار المالي والإقتصادي على الأبواب؟
 
أغلب الظن ان البعض يعتقد ان الانهيار المالي والإقتصادي سيسرّع في تغيير النظام الطائفي.
 
في هذا اطار هذه الرؤية يشكّل العجز عن تأليف الحكومة عاملاً مساعدًا لذلك، ممّا يجعل هذه القوى تفضّل عدم المطالبة بتأليفها.
 
رأيي أن الانهيار المالي والإقتصادي يمكن ان يؤدّي الى انهيار الدولة وليس الى انهيار النظام الطائفي، الذي من الأصح تسميته اليوم "نظامًا مذهبيًّا" فرعيا في اطار اقليمي اوسع. وعلى الأرجح ان هذا "النظام المذهبي" يمكن ان يستفيد هو من انهيار الدولة لإعادة تشكيل نفسه على أسس جديدة في مجال توزيع السلطة وربما بطريقة عنيفة. وليس في مقدور قوى التغيير الإقتصادي الإجتماعي التأثير في هذا المسار، لا عدديا ولا تنظيميًّا ولا عسكريًّا ولا مؤسّساتيًّا. بل جلّ ما يمكن ان تقوم به هو تهيئة الساحة للقوى المذهبيّة لاحداث التغييرات بحسب مصلحتها.
 
الإشكالية الكبرى هي حول الوسائل التي تستخدمها هذه التحرّكات لتحقيق مطالبها.
 
الداعون الى تأليف الحكومة فورًا لجأوا الى الاضراب العام، لكنهم صرّحوا بأنهم لا يضربون ضد أحد وليسوا مع أحد.
 
كان يمكن لاضراب عام مفتوح يشارك فيه معظم المواطنين ان يشلّ الإقتصاد ويجبر ربما الطبقة السياسيّة على الاسراع في تأليف الحكومة. لكن إضرابًا ليوم واحد تلبي الدعوة اليه أقلية من العمال، لا يمكن ان يكون له أي تأثير ولا سيما ان وجهة الضغط غير معروفة. مع العلم ان المسؤوليّة الدستوريّة في تأليف الحكومة تقع على عاتق الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية، وعليهما معًا يجب ان يمارَس الضغط. فضلاً عن ان الدعوة الى الاضراب جاءت قبل يومين فقط من الاضراب وافتقرت الى العمل التعبوي والتنظيمي اللازم. مع ان المطلب سياسي وهو مطروح في ظل انقسامات سياسيّة حادة بين المواطنين وبين العمال.
 
الساعون الى التغيير الإقتصادي الإجتماعي فضّلوا اللجوء الى الاعتصامات والمسيرات والتظاهرات، أي الى الشارع.
 
هنا أيضًا لا تحديد لوجهة الضغط، إلاّ رمزيًّا: على افتراض مثلاً ان الاعتصام في ساحة رياض الصلح او التظاهرة في اتجاهها يعني الضغط على الحكومة.
 
فهذه التحرّكات لا تحدد بوضوح الجهة المسؤولة عن تحقيق المطالب التي ترفعها، سالكة بذلك الطرق الدستوريّة والقانونيّة.
 
وإذا كان ذلك يمكن ان يعكس تفاديًا لمواجهة افرقاء سياسيين دون غيرهم، إلاّ انه يشير أيضًا للاسف الى ان القوى التي تطالب بالتغيير لا تحترم هي أيضًا الدستور وما ينص عليه، على غرار الطبقة السياسيّة الحاكمة.
 
لكن المسألة في تقديري اعقد من ذلك.
 
ربما كانت هذه القوى تعتبر ان ما تقوم به من تحرّكات لا بدّ ان يؤثّر في الرأي العام الذي يضغط بدوره على السلطة السياسيّة لتحقيق المطالب، من مثل ما يحصل في فرنسا أو في بلدان أخرى.
 
هنا تغفل هذه القوى ان آليات اشتغال الرأي العام للتأثير في القرارات السياسيّة شبه معطلة في لبنان: الاعلام لا يعكس الرأي العام والنواب لا يتأثرون بموقف منتخبيهم ومجلس النواب لا يحاسب الحكومة. كما ان آليات اشتغال السلطة بحد ذاتها معطلة بسبب عدم تطبيق الدستور، وبسبب اتخاذ القرارات السياسيّة بتأثير من خارج المؤسسات لا بل ومن خارج الحدود.
 
أو ان هذه القوى من الأساس لا تعتبر تحرّكاتها وسائل ضغط بقدر ما هي أدوات تعبئة على المدى البعيد. وذلك إما لاقتناعها بأن امكاناتها الحالية لا تسمح لها بالضغط مما يتطلّب تعبئة ومراكمة للقدرات على المدى البعيد. وإمّا لانها منذ البدء لا تضغط من اجل هذه المطالب فحسب بل تراهن على تزايد النقمة الشعبية واطاحتها النظام الطائفي ونموذجه الإقتصادي.
 
***
 
أمام خطر الانهيار المالي والإقتصادي، الذي بات الاطراف جميعهم يعترفون باحتمال حدوثه القريب، أقترح، بصفتي مواطنا لبنانيا وناشطا في المجال الإجتماعي الإقتصادي، على القوى المعنية بالتغيير الإقتصادي الإجتماعي اعتماد المسار الآتي في نضالها:
 
أولاً: الضغط من أجل تأليف الحكومة فورًا ومن الأفضل ان تكون الحكومة مصغّرة ومن أصحاب الإختصاص. على ان يتم الضغط مباشرة على الرئيس المكلف وعلى رئيس الجمهورية معًا، على أساس مسؤوليتهما الدستوريّة. ومن المفيد ان يترافق ذلك مع طرح للسياسة الإقتصاديّة الإجتماعيّة المطلوبة من الحكومة.
 
ثانيًا: يمكن وسائل الضغط ان تتنوّع بين اضراب واعتصام وتظاهر وأشكال أخرى، في إطار استراتيجيا للضغط، واضحة وتصعيديّة، تعطي الكثير من الأهميّة لمستلزمات التعبئة الشعبيّة والتنظيم الجيّد.
 
ثالثًا: بعد تأليف الحكومة وقبل صياغة البيان الوزاري، تكثيف الضغط من اجل ان يتضمن البيان سياسات إجتماعيّة إقتصاديّة تتناسب مع شروط النهوض الإقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية. على ان يتابع هذا الضغط في مرحلة مناقشة البيان الوزاري في مجلس النواب للحصول على ثقته.
 
رابعًا: بعد ان تبدأ الحكومة ممارسة مهامها، تأليف شكل من أشكال المرصد الشعبي لسياساتها وتنظيم الحملات الملائمة للتعامل معها. مع العلم انه في حال تبني الحكومة مقررات "سيدرا"، يمكن التعامل مع ذلك "بالقطعة" حيث ان كل مشروع من مشاريع "سيدرا" يحتاج الى صياغة حكوميّة وإقرار من مجلس النواب، وبالتالي المطلوب متابعة هذه المشاريع خطوة خطوة وعدم الاكتفاء بالموقف العام منها.
 
خامسًا: آخذين في الاعتبار ضعف قوى التغيير الإقتصادي والإجتماعي منفردة ومجتمعة، وكذلك تجارب التحركات الشعبية السابقة غير الفعالة، يصبح من مسؤولية الجميع العمل على تنسيق فعلي بين جميع القوى والاتفاق على استراتيجيا واحدة او استراتيجيّات متكاملة.
 
الانهيار على الأبواب، والخطر حقيقي على معيشة المواطنين وعلى الوطن ككيان، ومسؤولية قوى التغيير الإقتصادي والإجتماعي في الانقاذ لا تقلّ عن مسؤولية الطبقة السياسيّة.