ما يبدو أنه مشروع ثقافي أو أكاديمي بحت، هو أيضاً جزء من برنامج سياسي، لم يتم الجهر به مع أنه مدعاة للفخر، ربما تفادياً لجدلٍ ليس أوانه، وليس مكانه.


لكن، كان لا بد من صيغة ما من هذا الاعتراف لدى إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية منتصف الشهر الماضي، في حفل مهيب إفتتح خلاله أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، البوابة الالكترونية للمعجم، الذي قدمه رئيس المركز الدكتور عزمي بشارة، كهدية الى الأمة.


المعجم إداة عملاقة ، لم يسبق إنتاجها، للحفر والتنقيب في تاريخ اللغة العربية ، معاني المفردات وإشتقاقاتها منذ مراحل التكوين والتدوين الاولى. وهو يغطي الى الآن سبعمائة سنة من عمر هذه اللغة، حتى العام مائتين للهجرة. العمل مستمر، بفريق من كبار الباحثين واللغويين والمؤرخين العرب. والبوابة الالكترونية تستقبل كبار الزوار من مختلف أنحاء العالم.


البوابة لا تنفتح على نادٍ جديدٍ لنخبة النخبة الثقافية، العربية والعالمية، المعنية بتاريخ اللغة ومصطلحاتها ومقارناتها، وما أكتمل منها وتجذر بعدما قاوم عوامل الطبيعة والزمن. النادي متاحٌ لمن يرغب، بالحصول على أجوبة دقيقة على أسئلة لغوية-تاريخية مباشرة، معاصرة، تخدم في تعميق المعرفة باللغة وترسيخ الادراك لنصوصها المختلفة. البوابة مفتوحة أمام الاختصاصيين، الخبراء، الباحثين، الدارسين، الطلاب..


لكنها إنطلاقة تأسيسية في الاتجاه المعاكس تماماً، حيث اللغة العربية التي تحتل المرتبة الخامسة في لائحة اللغات الاوسع إنتشاراً في العالم، واللغة الطقسية الاولى لدى مليار ونصف مليار إنسان مسلم في العالم، تواجه اليوم خطر الاندثار للمرة الاولى في تاريخها الطويل، حيث تفقد الاجيال الجديدة من العرب الذين يقارب عددهم ال400 مليون نسمة، صلتها بلغتها ، نتيجة طغيان لغات وثقافات أخرى في البيئة العربية الممتدة من المحيط الى الخليج، التي بات يندر العثور فيها على مؤسسة تعليمية واحدة تتقن فنون تدريس اللغة وترغيب الجيل الجديد حتى بالنطق بها، فكيف بالتمكن من القراءة والكتابة بها. وهو تهديد وجودي للغة التي باتت قواعدها في الصرف والنحو أشبه بألغاز بالنسبة الى الملايين من طلاب المدارس وحتى الجامعات في مختلف بلدان العالم العربي. ولولا الاعلام العربي، الفضائيات بشكل خاص، التي قربت المسافات بين العرب وعامياتهم وحفظت فصيح لسانهم، لما كانت العربية لغة حية.


العرب يخسرون لغتهم الجميلة مثلما خسروا هويتهم العربية، وأضاعوا حلمهم العربي. وهي مشكلة سياسية بقدر ما هي معضلة ثقافية. الاسلام السياسي الذي كان يتوقع ان يخدم في حفظ اللغة على الاقل وربما نهوضها، أعاد تلك المهمة قروناً الى الوراء، عندما أنتقى في خطابه أشد النصوص والمفردات تقعيراً وتعقيداً وتنفيراً، وساهم في خروج الاجيال الجديدة من الأمة والوطن والدين، بحثاً عن ملاذات آمنة ، رحبة، متسامحة، لا تقيم الحد ولا تنفي الضد..مكملاً بذلك تجربة نظام ثقافي وسياسي عربي، ولد من رحم العثمانية، ونما كبديل للاستعمار الاوروبي، لكنه لم يستلهم من الجانبين سوى العسكريتاريا، والفاشية، ما آل الى تحلل الامة ودمارها الراهن.


معجم الدوحة هو بهذا المعنى نقيض لذلك المسار الانحداري العربي. الفكرة القومية التي لم يعد لها جاذبية حتى لدى ورثة القوميين العرب الاوائل، تبحث اليوم عن محتوى ثقافي-سياسي، لن تجده في أي رابطة غير اللغة، وهي أضعف الإيمان وشرطه الاول.. الذي إلتزم به رواد عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، لإطلاق عملية تنوير قومي، هي اليوم في مطلع هذا القرن، قدر العرب وخيارهم الوحيد مهما طال الزمن.


المعجم مشروع سياسي، لا داعي للحرج او التحفظ، أساسه الحفريات في اللغة العربية وأثارها، المهددة بان تصبح لغة بحوث ودراسات ليس إلا،أو حتى لغة مزارات ومتاحف، لا أن تظل لغة تواصل وتفاعل..لغة حضارة ترفض الموت.