تمنّيتُ أن يكون ورثتُنا، وقد ملأوا الأرض والفضاء بأفكارهم الدينية ومعتقداتهم اللاهوتيّة أكثر صدقاً وإخلاصاً وإنسانيّة من القوميّين والعلمانيين رئيسية
 

لطالما تمّنيتُ أن نكون مع جيلنا من "التّقدُّميّين والعلمانيين والثوار الماركسيين، والقوميّين واليساريين" من أواسط الخمسينيات من القرن الماضي حتى أواسط الثمانينيات، قد أخطأنا الهدف وضللنا الطريق عندما اعتنقنا أفكار القومية العربية، باعتبار أنّ الأمّة العربية واحدة، ذات رسالة خالدة حسب شعار حزب البعث العربي الإشتراكي، فقد كانت هذه الأمّة محطّ عزٍّ وفخار بتراثها ولُغتها وأدبها وشعرها، وأحسابها وأنسابها ومكارمها وأديانها وحضارتها، ثمّ انعطفنا نحو الفكر الإشتراكي العالمي، باعتباره أوسع أُفُقاً، وأكثر انفتاحاً نحو آفاق العدالة والمساواة والاشتراكية والسلم العالمي.

تمنّيتُ أن يكون ورثتُنا، وقد ملأوا الأرض والفضاء بأفكارهم الدينية ومعتقداتهم اللاهوتيّة أكثر صدقاً وإخلاصاً وإنسانيّة من القوميّين والعلمانيين، الذين وبعد صراعٍ مرير، حصدوا الخيبات على ما يقرُب من نصف قرن، وتاهوا في صراعاتهم وأهوائهم وانشقاقاتهم، حتى خلا الجوُّ للعمائم والديكتاتوريّين فتمدّدوا وبسطوا سلطانهم ما يقرب من أربعة قرون، قبل أن يُداهمهم "الربيع العربي" منذ عدّة سنواتٍ فقط.

اقرا ايضا : من عين التينة إلى بكركي .. حكومة المحاصصة على الأبواب

 

واليوم مع التمنيات التي لحقتها الخيبات، عُدنا القُهقرى، وها هي الإمبراطورية الإسلامية التي حلم بها الإمام حسن البنّا قد تهاوت، والدخول الإيراني في مسامّ العالم العربي قد ولّد صراعاً مذهبيّاً، كُنّا وكانت الأمّة الإسلامية قد توهّمت أنّه أصبح وراءها، فإذا به يقُضُّ مضاجعها من جديد، وها هي الصراعات الدموية بأشكالٍ وصيغٍ شتّى، تملأ الأرض على وسع رحبها،وللأسف شاخ اليوم جيل الخمسينيات والستينيات بعد من قضى، ومن ينتظر وهو يحمل على ظهره هموم صراعاته الغابرة وأزمات عصره الراهن.

تُرى، من يُعيد اليوم وهج الشعارات القومية والاشتراكية؟ والصراع الطبقي، وأماني حركات التّحرُّر، وأحلام السلام العالمي، ومنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتوازن الغذاء بين الجنوب والشمال، ومكافحة الجهل والأميّة والتّعصُّب، والقضاء على مُسبّبات الصراعات الدينية الدموية، والقضاء المبرم على الديكتاتوريات وقوى الاستبداد، من يستطيع أن يحمل اليوم هذا الحمل الثقيل؟ بعد أن بُدّدت القوى التي حملت هذه الشعارات ردحاً من الزمن، ثمّ استُبيحت مقولاتها، وطُمست شعاراتها بالجهل والشعوذة، ونُهبت خيراتها تحت رايات التّقوى والفساد معاً، حتى بتنا نُؤمن بأنّ أفضل ما ينطق بحالنا وحالهم ما ورد في أول سورة البقرة من القرآن الكريم:(وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الأرض، قالوا إنّما نحن مصلحون. ألا إنّهم همُ المفسدون ولكن لا يشعرون).