فيفيان عقيقي
 
لم تأتِ دراسة شركة ماكنزي بنتائج واقتراحات جديدة غير متوقّعة، بل أتت لتؤكّد المؤكّد. إذ يبدو واضحاً أنها تضع أمامها مهمّة إنقاذ النموذج الاقتصادي القائم لا تغييره كما زُعم في سياق التسويق لها. عملياً، تأتي الدراسة العتيدة المنتظرة منسجمة مع شروط «سيدر» ومطابقة للصورة التي لطالما رسمت للاقتصاد اللبناني، فهي تقدّم الوصفة المُعتادة: المزيد من تحرير رأس المال، الخصخصة، خفض أجور القطاع العام، رفع الدعم، النموّ بالدين... وطبعاً القليل القليل من الدولة، مع التمسّك بغلبة قطاع الخدمات وزيادة التخصّص بالهجرة وخدمة الاقتصاد الإقليمي.
«حتى عام 2025، من المتوقّع أن يولّد الاقتصاد اللبناني 370 ألف فرصة عمل جديدة، مع تخفيض معدّل البطالة من 15 ــ 25% إلى 8%، وتحقيق نموّ بنسبة 6%، مقارنة مع 1% حالياً، فضلاً عن تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي من 145% إلى 110%، وتخفيض عجز الميزان المالي من 8% إلى 3%، وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات بنسبة 10% من الناتج. بالإضافة إلى تحسين معدّلات لبنان في المؤشّرات العالمية للبنية التحتية والفساد وجودة المعيشة».
هذه الأرقام الطموحة جدّاً والتوقّعات الوردية، تستعرضها خطّة ماكنزي التي أصدرتها وزارة الاقتصاد والتجارة أخيراً، وهي تفترض أن تنشيط العمل التشريعي وتحسين بيئة الأعمال وتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتحفيز الخصخصة ومكافحة الفساد كفيلة بالوصول إلى الأهداف المنشودة.
 
هوية جديدة أم دعامة للنموذج القائم؟ 
بعد أكثر من عام من موافقة الحكومة على إجراء دراسة حول مستقبل لبنان الاقتصادي وتكليف شركة ماكنزي بإعدادها، صدرت الدراسة المُنتظرة والمفترض أن تتبناها الدولة اللبنانية باعتبارها "الرؤية الاقتصادية للبلاد خلال السنوات الخمس المقبلة». وكما كان متوقّعاً، لم تأتِ الدراسة التي كبّدت الحكومة اللبنانية نحو 1.3 مليون دولار، وكان من المفترض الانتهاء منها قبل انعقاد مؤتمر "سيدر" في نيسان/ أبريل الماضي في العاصمة الفرنسية باريس، بأي جديد حول تشخيص سمات الاقتصاد اللبناني أو اقتراح الحلول لها.
تدّعي الدراسة وضع رؤية جديدة للاقتصاد اللبناني، إلّا أن توصياتها لا تختلف كثيراً عن التصوّرات التي لطالما رسمت لطبيعة الاقتصاد اللبناني منذ ما قبل الحرب والتي تجذّرت أكثر وأكثر في مرحلة إعادة الإعمار. 
بصورة أكثر وضوحاً، تعيد الدراسة التذكير بأن الاقتصاد اللبناني «يدور في حلقة مفرغة نتيجة فترات الاضطرابات والتقلّبات التي يشهدها ويقودها الاعتماد الكبير على تدفّقات المهاجرين بدلاً من القطاعات الإنتاجية». وكعلاج، تقترح الدراسة التخصّص في الهجرة "عبر إدارة العرض والطلب في أسواق العمل الخارجية وتدريب اليد العاملة المحلّية لتلبية متطلبات هذه الأسواق». كما تقترح تحويل لبنان إلى "مركز حضري وتجاري وسياحي، يستقطب طالبي التعليم والخدمات الاستشفائية والباحثين عن الترفيه»، وهي القطاعات التي تتسم بكونها الأكثر عرضة لتقلّبات الأسواق الخارجية كسوق النفط، والأكثر تأثّراً بالأوضاع الجيوسياسية. وعلى الرغم من تشديد الدراسة على «ضرورة مضاعفة التركيز على القطاعات المُنتجة ذات القيمة الإضافية العالية (الزراعة والصناعة والتكنولوجيا) وبناء رأس مال بشري يلبّي الاحتياجات الاقتصادية المستقبلية»، إلّا أنها لا تقدّم أي توصيات لتصحيح النظام الضريبي أو خفض الفوائد المرتفعة ورفع تنافسية الإنتاج اللبناني لتحفيز هذه القطاعات وتشجيع الاستثمار فيها، بل تعيد تقديمها مع سلّة توصيات بسياسات وإجراءات وحوافز للقطاع الخاص.

انسجاماً مع «سيدر»: خفض الأجور ورفع الدعم!
تنطلق الدراسة من تحليل الوضع الراهن، وتحدّد مجموعة من الإجراءات تراها ضرورية لمواكبة «الرؤية الجديدة والخطّة الوطنية» المقترحة. وبعد "الرتوش" الذي أجرته ماكنزي على دراسة قديمة سبق أن أعدّتها شركة "بوز أند كومباني" لمصلحة الدولة اللبنانية عام 2010، ركّزت في مقترحاتها الجديدة على 6 قطاعات، رأت أنها "ذات إمكانيات عالية كفيلة بإخراج الاقتصاد اللبناني من دوّامته، وهي: الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات المالية واقتصاد المعرفة والمنتشرون». 
في الواقع، تنسجم ماكنزي مع شروط مؤتمر «سيدر»، وهي تشترط تنفيذ ما يسمّى «إصلاحات سيدر» لحسن تنفيذ خطّتها. فهي تتناول «العمل على إصلاح البنية التحتية، ولا سيّما المشاريع المخطّط لها مسبقاً (المقدّمة في سيدر)، وهي مشروع الباص السريع لبيروت، وإعادة تأهيل مطار بيروت، والطريق السريع رأس بعلبك ــــ الحدود السورية، وشبكة الألياف الضوئية، ومشاريع إدارة النفايات والمناطق الصناعية، بالإضافة إلى إصلاح قطاع الكهرباء من خلال خطة 2010 وتعديل التعرفة. فضلاً عن إطلاق مشاريع جديدة غير مشمولة بسيدر وهي منطقة لتكنولوجيا البناء تركّز على التصدير إلى سوريا والعراق، وبناء مركز المعرفة في بيروت، وتحسين الأرصفة في صور وجبيل وبيروت المقترح تحويلها إلى مدن سياحية».
وفي هذا الإطار، تقترح الدراسة العمل على تفعيل 3 ممكنات لتحفيز النمو الاقتصادي بوتيرة أعلى، وهي تطاول الإدارة العامّة من خلال استقرار و/أو خفض الرواتب والأجور وتجميد التوظيف في القطاع العام، والسياسة المالية عبر خفض التحويلات السنوية لمؤسسة كهرباء لبنان بنحو 1 إلى 2 مليار دولار، وخفض العجز بنسبة 1% سنوياً، وتحديد سقف مالي للحكومة، وفرض ضرائب جديدة على التبغ وضريبة القيمة المضافة ورسوم التسجيل العقاري، وتكثيف الجباية من 40% إلى 70%. بالإضافة إلى تطوير إنتاجية البرلمان وإقرار 11 قانوناً متعلّقاً ببيئة الأعمال؛ منها القانون التجاري كأولوية قصوى وقوانين إنهاء العمل والوساطة القضائية والإفلاس والإقراض الآمن كأولوية عالية، وإنفاذ قانون المياه 221 وتعديل المرسوم الوزاري 1660 المتعلّق بحوكمة المناطق الصناعية».

التوصيات القطاعية: 
 الزراعة: تهدف الخطّة إلى زيادة مساهمة الزراعة في الناتج المحلّي من 1.6 مليار دولار عام 2017 إلى 2.2 مليار عام 2025، فضلاً عن رفع عدد الوظائف في هذا القطاع من 210 آلاف إلى 214 ألفاً. بالإضافة إلى استحداث أراضٍ زراعية للمحاصيل ذات القيمة العالية بحدود 10 آلاف هكتار، ورفع قيمة الصادرات الزراعية من 175 مليوناً إلى 750 مليون دولار. ولتحقيق أهداف رؤية 2025، تفترض الدراسة التركيز على المحاصيل ذات القيمة العالية، مثل الأفوكا والبندورة وتربية المواشي، والحدّ من زراعة التبغ والمحاصيل ذات القيمة المتدنية، مثل الزيتون والحبوب، ورفع مستويات إنتاجية المحاصيل من خلال تحسين الأساليب المعتمدة وتطبيق التكنولوجيات الحديثة وتعزيز نطاق البحث الزراعي، فضلاً عن تعزيز شفافية السوق المحلية وزيادة القبول العالمي للمنتجات اللبنانية عبر الحدّ من الاستخدام المفرط للأسمدة وتكييف الممارسات الزراعية مع تفضيلات الأسواق الخارجية، وإنشاء مناطق خاضعة للرقابة تزرع فيها الحشيشة الموجّهة إلى التصدير بطريقة مشروعة وللأغراض الطبية.
 الصناعة: تتوقّع الخطّة رفع حصة الصناعة من الناتج المحلي من 4.6 مليارات دولار عام 2017 إلى 8 مليارات دولار عام 2025، ورفع عدد الوظائف من 185 ألفاً إلى 240 ألفاً، ورفع قيمة صادرات المجموعات الفرعية من 828 مليون دولار إلى 1.8 مليار دولار. تشترط الخطّة لتحقيق الأهداف المنشودة إنشاء قطاعات النمو الفرعية المتخصّصة التي تحقّق مستويات عالية من التنافسية من خلال الدعم الحكومي الموجّه، مثل الصناعات الدوائية والغذائية والعطور والمنتجات الاستهلاكية التي تعتمد على التصميم والابتكار مثل المجوهرات ومستحضرات التجميل، وإنشاء 6 مناطق صناعية (بما في ذلك منطقة خاصّة بإعادة إعمار سوريا، والمنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس، و3 مناطق صناعية مقترحة من وزارة الصناعة وUNIDO، ومنطقة صناعية تكنولوجية)، فضلاً عن توفير البنية التحتية العالية المستوى. 
 السياحة: تتوقّع الدراسة رفع مساهمة السياحة في الناتج المحلي من 1.6 مليار دولار إلى 3.7 مليارات دولار حتى عام 2025، ورفع عدد الوظائف من 89 ألفاً إلى 185 ألفاً، وكذلك عدد السياح من 1.9 مليون إلى 4.2 ملايين سائح (4 ملايين سائح ترفيه و0.2 مليون سائح أعمال). وتقترح الدراسة استقطاب مروحة جديدة من السيّاح من 15 دولة أوروبية وخليجية، وحيث ينتشر المغتربون اللبنانيون (أي كندا وأميركا وأوستراليا)، وذلك عبر التركيز على السياحة المدينية والثقافية وتحويل كلّ من صور وجبيل وبيروت إلى وجهات سياحية لقاصدي المدن، وتطوير الخدمات فيها وبناء مراكز ترفيهية ومراكز ألعاب وكازينوات، فضلاً عن التركيز على السياحة البيئية والسياحة الاستشفائية في جبل لبنان والشمال وسياحة الأعمال في بيروت.
 الخدمات المالية: تتوقّع الدراسة أن تؤدّي توصياتها للقطاع المالي إلى رفع حصته من الناتج المحلّي من 4.8 مليارات دولار عام 2017 إلى 7.8 مليارات دولار عام 2025، لكن من دون زيادة فرص العمل فيه، بل استقرارها عند 50 ألف وظيفة، لكن مع زيادة إجمالي أصول الخدمات المالية نسبة إلى الناتج المحلي (المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين) من 433% إلى 490%، وزيادة إجمالي الأصول المدارة خارج الميزانية العمومية إلى الناتج المحلي (الأوراق المالية باستثناء الودائع) من 14% إلى 30%. ولتحقيق ذلك، تقترح الخطّة تطوير الخدمات المالية والمصرفية الرقمية، وإشراكها في برنامج التنمية الاقتصادية وتمويل الشراكات بين القطاعين العام والخاص، إذ تهدف الخطّة إلى خفض حصة المصارف من الديون السيادية من 50 إلى 37% في مقابل رفع معدّل اختراق القروض الفردية إلى الناتج المحلي من 30 إلى 50%، وكذلك رفع حصة القروض إلى القطاعات ذات الأولوية من 19 إلى 30%. فضلاً عن استحداث خدمات مالية غير مصرفية وتنويعها وتطويرها مثل شركات التأمين وإدارة الصناديق والأسهم وأسواق رأس المال وصناديق رأس المال والثروات، وذلك عبر رفع الأقساط المكتتبة للتأمين على الأصول المادية وعلى الحياة، وزيادة عدد الشركات المدرجة في البورصة من 10 إلى 25 شركة، وزيادة ثروات أصحاب الثروات الضخمة الموجودة في لبنان من 40 إلى 55%.

 اقتصاد المعرفة: تقترح الدراسة التحوّل إلى اقتصاد رقمي عالي الإنتاجية ورائد في مجال الابتكار، بما يؤدّي إلى رفع مساهمة هذا القطاع من الناتج المحلي من 1.4 مليار دولار إلى 3.8 مليارات دولار، ورفع عدد الوظائف فيه من 44 ألفاً إلى 105 آلاف وظيفة، ورفع عدد الشركات الناشئة من 200 إلى ألفي شركة. وتهدف الدراسة إلى تحويل لبنان مركزاً إقليمياً في مجال التكنولوجيا المالية والإبداعية والتعليمية والصحية، وتقترح الاستثمار في رأس المال البشري المتوافر فيه، وتعزيز خدمات التعاقد الخارجي والإبداع الإقليمي وتوجيهها نحو الخليج، فضلاً عن جذب الطلاب الإقليميين من مختلف الاختصاصات بعد تحويل لبنان إلى مركز تعليمي متخصّص.
 الانتشار اللبناني: تنطلق الدراسة من كون العلاقات مع الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين ضعيفة جدّاً، ومن أن نسبة تدفق أموال المهاجرين غير المنتجة مرتفعة جدّاً، وغالبيتها تصبّ في العقارات وتمويل الاستهلاك، ومن أن هجرة اليد العاملة غير منظّمة. لذا، تقترح تفعيل سياسة الهجرة وتفعيل نظام لتتبع المهاجرين ونسج علاقات متينة معهم عبر تنظيم رحلات تعريفية إلى لبنان، والاستثمار في الهجرة وتنظيمها لتلبي أسواق العمل الخارجية عبر تدريب اليد العاملة المحلية لدخول الاقتصاد العالمي وإدارة العرض والطلب على اليد العاملة، وتخصيص تحويلات المهاجرين في استثمارات التنمية المناطقية والاستثمارات المنتجة.



النموذج اللبناني عالق في حلقة مفرغة
وفقاً لدراسة ماكينزي، لم يحقّق الاقتصاد اللبناني أي زيادة في ثروته خلال السنوات الأربعين الماضية، ولم يستطع مجاراة البلدان الأخرى في السنوات السبع الماضية، بحيث نما نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 30% خلال الأربعين سنة الماضية، في مقابل متوسّط عالمي بنسبة 120%، وبنسبة 8% خلال السنوات السبع الماضية، في مقابل متوسّط عالمي بنسبة 14%. 
وتشير الدراسة إلى أن النموّ كان مدفوعاً بتدفّقات مالية إقليمية من اللبنانيين المهاجرين والتمويل المتقطّع من المانحين. إذ نمت تدفّقات ميزان المدفوعات بنسبة 40% بين عامي 2005 و2010 في مقابل 3% بين عامي 2010 و2015. علماً أن 70% من هذه التدفّقات (72 مليار دولار) موّلت، أساساً، القطاعات الأقل إنتاجية، وتحديداً الاستهلاك والعقارات، و21% منها (22 ملياراً وظّفت في القطاع المصرفي). كذلك خُصّص جزء منها لتمويل الدين العام. 
هذا الواقع أفسح مجالاً محدوداً للنفقات الرأسمالية التي لا تشكّل سوى 4% من الموازنة خلال السنوات العشر الماضية مقابل 10-20% كمعيار مرجعي، وبالتالي ساهم بتراجع البنية التحتية، وبات لبنان يحتل المرتبة 113 بين 137 دولة في هذا المؤشر، وهو ما ولّد بيئة أعمال غير مواتية، فتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 30% بين عامي 2010 و2017، وانخفضت مساهمة القطاعات المُنتجة في الناتج المحلّي، بحيث شكّلت 14% بين عامي 2010 و2016، في مقابل 20% كمعيار مرجعي، وبالتالي تراجعت فرص العمل والإنتاجية. وهي عوامل تطيل أمد هذه الحلقة المفرغة.