لم يتغيّر شيء في لبنان منذ سنوات طويلة. يندرج كلّ ما حصل ويحصل حاليا في سياق واحد هو جعل ثقافة الموت تنتصر على ثقافة الحياة. هذا ما يفسّر حرب صيف العام 2006 والاعتصام الذي تلاها في وسط بيروت… وصولا إلى غزوة العاصمة والجبل في أيّار – مايو 2008 من أجل إخضاع أهل بيروت والجبل الدرزي.
 

لا يزال مكان للفرح في بيروت. كان يمكن للبنان الغرق أكثر في وحول أزمته لو لم يوجد من يريد بالفعل انتشال البلد من الوضع الراهن من جهة وإحياء الأمل بمستقبل أفضل من جهة أخرى.

لم تكن احتفالات بيروت ليل رأس السنّة سوى عنوان للرغبة في المقاومة لدى كثيرين، يقدّرون بعشرات الآلاف ما زالوا يرفضون الاستسلام لثقافة الموت. لكنّ السؤال إلى متى تستمر هذه المقاومة وهل تدوم أكثر من ليلة واحدة، هي ليلة استقبال السنة الجديدة؟

لا تزال بيروت تقاوم. كشفت كميّة الفرح في وسط بيروت كم هناك توق لدى الأكثرية الساحقة من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعية لإعادة الحياة إلى ثقافة الحياة. أي إلى لبنان الذي يمثل مجموعة من المواطنين ينتمون إلى مشارب مختلفة يؤمنون بالعيش المشترك بعيدا عن العنف وثقافة السلاح الميليشيوي والمذهبي.

لكنّ أهمّ ما كشفته تلك الليلة، التي جعلت العالم يعترف بأن احتفالات بيروت كانت بين أجمل الاحتفالات في مدن العالم التي استقبلت 2019، هو دور وسط المدينة. إنّه دور إعادة الحياة إلى العاصمة وإلى لبنان ككلّ بعيدا عن الشعارات الفارغة. كشفت تلك الليلة أيضا التي اختلطت فيها الموسيقى والأغاني بالألعاب النارية في حضور رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري لماذا كلّ هذا الحقد على بيروت. بلغ هذا الحقد ذروته بتفجير موكب رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. لم يكن رفيق الحريري الذي تحوّل في تلك المرحلة إلى زعيم وطني عابر للطوائف والمناطق مستهدفا وحده. كانت بيروت مستهدفة أيضا. ولذلك، كان ضروريا استتباع اغتيال الرجل الذي أعاد الحياة إلى العاصمة باعتصام استمرّ أشهرا عدة في خريف العام 2006.

كان الهدف واضحا في كلّ وقت. فبحجة إسقاط حكومة فؤاد السنيورة واستعادة التمثيل الصحيح، أي للقوى التي تقف مع النظام الأمني الإيراني – السوري، بدأ نصب الخيام في ساحة رياض الصلح. حدث ذلك من أجل تهجير أكبر عدد من اللبنانيين من بلدهم. كان مطلوبا بكل بساطة القضاء على الأمل. كان مطلوبا ضرب الاقتصاد وتعطيل الحياة انطلاقا من نبع الحياة لكلّ لبنان. من وسط بيروت وليس من أيّ مكان آخر.

لم يتغيّر شيء في لبنان منذ سنوات طويلة. يندرج كلّ ما حصل ويحصل حاليا في سياق واحد هو جعل ثقافة الموت تنتصر على ثقافة الحياة. هذا ما يفسّر حرب صيف العام 2006 والاعتصام الذي تلاها في وسط بيروت… وصولا إلى غزوة العاصمة والجبل في أيّار – مايو 2008من أجل إخضاع أهل بيروت والجبل الدرزي.

جاءت احتفالات رأس السنة في وسط بيروت لتؤكّد أنّه لا يزال في لبنان شعب يرفض الهزيمة وأنّ الهجوم على وسط المدينة هو هجوم على لبنان. من ليس مقتنعا بذلك، يستطيع العودة إلى سبعينات القرن الماضي عندما اندلعت الحرب الأهلية التي كانت حروبا بين اللبنانيين وحروب الآخرين على أرض لبنان. كانت هناك ميليشيات مسيحية وأخرى إسلامية وكان هناك مسلّحون فلسطينيون يعملون على التخريب من أجل التخريب. كان معظم المتقاتلين يحصلون على السلاح من سوريا فيما كانت كميات أخرى من السلاح تأتي عبر البحر من مصادر أخرى. لكن الهدف النهائي كان تدمير بيروت ووسط المدينة بالذات كي لا يلتقي اللبنانيون من مختلف الطوائف والمناطق مجددا. ذهب النظام السوري في مرحلة معيّنة إلى تكريس خط الفصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية عن طريق تمركز قوات تابعة له تنتمي إلى ما يسمّى “جيش التحرير الفلسطيني” على طول هذا الخط!

وظّف النظام السوري “جيش التحرير الفلسطيني” في عملية الفصل بين المسيحيين والمسلمين في بيروت. عمل كلّ ذلك من أجل ألّا تقوم لبيروت قيامة في يوم من الأيام. كان يعتقد أن دمشق ستزدهر لمجرّد تدمير بيروت. إنّه نظام لا يعرف البديهيات من نوع أنّ دمشق تصبح أكثر ازدهارا في حال ازدهرت بيروت. والعكس صحيح. ولكن ما العمل مع نظام يعتقد أن ازدهار بيروت موجه ضدّه.

لم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ. ما كادت حرب السنتين (1975–1976) تضع أوزارها حتّى بدأت حروب أخرى من نوع آخر، خصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وبعد دخول إيران على الخط مباشرة بعد قيام “الجمهورية الإسلامية” وبعد تأسيس “حزب الله”. صار مطلوبا تغيير طبيعة بيروت بما في ذلك التركيبة السكانية للمدينة. لذلك كان ما فعله رفيق الحريري عندما أعاد بناء وسط بيروت أقرب إلى معجزة من أيّ شيء آخر. تطلبت تلك المعجزة طمأنة حافظ الأسد بكلّ الوسائل إلى أن الأمر ليس موجها ضد نظامه وأن لا أحد يريد إيذاء سوريا انطلاقا من لبنان. لم تنفع كلّ تلك التطمينات في المدى الطويل بعدما اعتبر بشّار الأسد أن لبنان، بالنسبة إليه، هو “حزب الله” وأن في استطاعته استخدامه “ساحة” في لعبة التجاذبات العربية والدولية.

من المهمّ أن تبقى بيروت صامدة وأن تظهر قدرتها على الردّ في ظلّ الهجمة التي يتعرّض لها لبنان على كلّ المستويات. حصل اختراق إيراني في العمق للمسيحيين. هناك محاولة واضحة لإيجاد شرخ عميق لدى الدروز. هناك محاولات متكررة لإخضاع الطائفة الدرزية التي لعب زعيمها دورا محوريا في التصدي للنظام السوري وتعريته قبل اغتيال رفيق الحريري ومباشرة بعد حصول الاغتيال. فوق ذلك كلّه لم يكن من هدف للانتخابات النيابية الأخيرة والقانون العجيب الغريب الذي أجريت على أساسه سوى إظهار أن السنّة ليسوا كلّهم مع سعد الحريري. كان سعد الحريري الهدف الأوّل لـ”حزب الله” ومن خلفه إيران في تلك الانتخابات التي خرج منها بأقل كمّية من الأضرار.

إلى متى ستظل بيروت تقاوم؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال. ما ليس صعبا تحديده هو حجم الهجمة المتجددة على العاصمة اللبنانية، وهي هجمة شعر اللبنانيون عموما بمدى خطورتها. كان شعورهم هذا وراء نزولهم بكثافة إلى ساحة النجمة وسط المدينة ليلة رأس السنة. كان نزولهم دليلا على وجود وعي لما هو على المحكّ في بلد منقسم على نفسه يعاني من أزمة اقتصادية عميقة، بلد من دون حكومة منذ ثمانية أشهر لسبب في غاية البساطة فحواه أن إيران تعتبره ورقة من أوراقها في المواجهة مع أميركا. لم يجد اللبنانيون ما يردّون به على هذا المنطق سوى الموسيقى والغناء والألوان الزاهية والألعاب النارية والفرح. أرادوا بكل بساطة الدفاع عن مدينتهم وإظهار تعلّقهم بثقافة الحياة التي يوجد من يريد حرمانهم منها إلى أبد الآبدين. الأمل بأن يكون هذا الردّ لأكثر من يوم وليس في مناسبة رأس السنة فقط.