سنجار أو شنكال بما تعرضت إليه من مهازل تتجه لتبحث لها عن وطن تستقر فيه بعيدا عن تنظيم الدولة الإسلامية أو أحزاب كردية مسلحة بغايات خاصة أو قصف تركي.
 

ترتبط الفترات التنويرية من حياة البشرية عادة بذروة اكتمال نضج الحالة الشخصية وتأثيرها. وتكون ذات صلة بالعمر الزمني المحدد للنشاط الذهني والفكري وتوقّده وبما يشكله من صراع حتمي مع المحيط؛ صراع أدى إلى نشوء الثورات الكبرى في التاريخ وامتد إلى اللحظات الفاصلة من المتغيرات، كالثورة الفرنسية أو الروسية وزوال القياصرة إلى الانقلابات الحاسمة وانبثاق الاكتشافات والاختراعات المذهلة التي ساهمت في تقليص مساحة الظلام عن العقول أو عن مادية المكان.

تركت الأزمنة الإنسان في سيل من التناقضات أوصلته إلى حربين عالميتين مدمرتين أنتجتا المأساة والرعب النووي وسباق التسلح والحرب الباردة ومجموعة قوانين لا يمكن تجاوزها في الدساتير الإنسانية المحترمة والمتأملة في جدوى الالتزام بمفاهيم أخذت استحقاقها الزمني في حروب وصراعات نهضت بالأسئلة رفضا لاستنساخ التجارب الكارثية.

وما نلاحظه من تجربتنا في العراق، أنها تجربة صالحة للاستخدام البشري في المحيط الإقليمي والدولي والأصح في الاستخدام الإنساني لأن السياسة والقوانين وحركة الاقتصاد وأسواق المنافسة المتعددة تتجاهل الضحايا، كما هو الحال في مدينة الموصل أو العراق عموما؛ فالوثائق الأممية للمنظمات المعنية وبحسابات المعايشة والمعاناة اليومية للعراقيين، ومنها ما هو خارج متابعة الإعلام، تؤكد أن أرقام القتلى تقترب من مليون ونصف المليون من شعب العراق خلال سنوات الاحتلال فقط.

هؤلاء خارج حسابات الإنتاج ومن أي نوع، يضاف إليهم الملايين من المدمرة مدنهم ويعيشون إما في الخيام وإما تحت خط الأحزان، وهو خط دون مؤشرات، يعيق الملايين من العراقيين عن الإحساس بتواجدهم في بداية العام 2019 ذلك لأن حياتهم ببساطة بعض من تجارب التاريخ في أسوأ فتراته ومطباته؛ فمن يعيش مشردا مع أسرته أو مع بقايا أسرته، ماذا يعني له الزمن وتعداد السنين من عمره المتهالك؟

في ذاكرتنا العراقية من سبعينات القرن الماضي مقولة وزعت في الشوارع وألصقت على كل جدار من المباني الحكومية وغرفها الداخلية وحتى غير الحكومية، كانت تردد بصيغ متعددة فكرة “إضاعة دقيقة من الزمن، إضاعة لفرصة من التقدم” وبمراجعة واقع العراق الآن، يبدو أن الأمر يتطلب إيقاف الهدر في الدم لعدم إضاعة وتهميش الإنسان، بإعادته إلى نقطة انتماء إلى الحياة أولا ثم التفكير بإعادته إلى الهوية الوطنية والهويات الفرعية التي تربى عليها تاريخيا وكانت له جسرا يوصله إلى التعايش واحترام نعمة المحبة والعيش المشترك والعمل وتربية الأسرة.

سنجار مدينة عراقية تقع غرب الموصل، وهي مدينة في مقاييس البحث الآثاري العالمي من إحدى المدن التي عُثر في جبالها على لقى ومقتنيات تؤكد أن الإنسان في هذه المنطقة عرف معنى الاستقرار والزراعة وتدجين الحيوانات قبل 70 ألف سنة. وهو تاريخ موغل في القدم ينفي تماما أهمية تراكم الزمن في التنمية في ظل الاجتياحات والمجازر والإبادات والمحاولات المستمرة لخلق بدايات وخط شروع لتجاوز المآسي واليأس والخوف وعدم وجود ضمانات في البقاء.

قبل أيام تم اختطاف عناصر من قوات الأمن الكردية في سنجار. وأدى ذلك إلى إعلان الإدارة المحلية في القضاء عن إعادة ضمّ القضاء إلى إقليم كردستان من جانب واحد وخارج أي تفاهمات مع إدارة المركز في بغداد، وإطلاق اسم شنكال بديلا عن سنجار في دلالة على كردية المدينة التي تعرضت إلى هجمات على يد الإمبراطورية الفارسية تماثل ما تعرضت له من بربرية تنظيم داعش في أغسطس 2014 بما أدت إليه من اختطاف للنساء وحالات يندى لها الجبين.

توجه العالم لمنح الإيزيدية ناديا مراد جائزة نوبل بدلا من التدخل الأممي الفاعل في رسم سياسات إنقاذ إنمائية وإعمار لتوفير حل دائم للأمن في المناطق المنكوبة بالإرهاب وغاياته خاصة في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار إضافة إلى الحيف الذي لحق بجميع العراقيين جراء الاحتلال وما تسبب به من إيقاف بل وتراجع عجلة الزمن كمؤشر لانعدام النهوض والتقدم والتنمية.

النظام السياسي يدور على نفسه في حلقة مفرغة من الاحتلال الأميركي والإيراني ومنتجات الإرهاب ليبرر إخفاقاته الفكرية في دوامة صراع الفاسدين على إيجاد موطئ قدم في مرحلة أخرى بعد أن وضعوا دستورا ساهم في تهشيم ضمانات الوحدة الوطنية.

نصطدم في العراق بدستور يقسم المجتمع قوميا ودينيا ويلحقه بإجراءات تعسفية في فرض إرادات الكراهية تجاه الطوائف بدلا من احترام المساواة أمام القانون ورفض التمييز على أساس العرق والدين والأصل لبناء وطن لا يتجزأ بنظام ديمقراطي واجتماعي موحد.

في العراق، التعداد السكاني الطائفي قائم عمليا ويتم ترديده كالببغاوات لفرض الإرادات وفق النسبة السكانية لسحق الآخرين في كياناتهم الخاصة وتعبيد الطريق أمام هجرة، غير الشرعية فقط، لما يزيد على نصف مليون مواطن وبحدود أكثر من 250 غريقا في البحر، عدا الذين غادروا رغما عنهم من بلادهم بسبب القوانين الجائرة لمنظومة الاحتلال أو هربا من تردي الأمن وغياب الأفق الذي هو مصدر الإلهام في كل استقرار ورغبة مخلصة في بناء أي وطن.

المادة 140 هي أحد ألغام الدستور؛ تتفجر أحيانا على شكل فقاعات، وفي أحيان أخرى عن سياسات دموية وإرهاب وانقسامات وقواعد عسكرية ثابتة في إقليم كردستان، يراها بعضهم وفق رؤية التجاذبات مع الإرهاب وآخرون يزجونها لغياب التوافقات مع المركز وفقدان الثقة المتبادلة في نظام مجرب طيلة سنوات الاحتلال، ما أودى بالعراق والعراقيين إلى حفرة من التطرف.

سنجار أو شنكال بما تعرضت إليه من مهازل تتجه لتبحث لها عن وطن تستقر فيه بعيدا عن داعش أو أحزاب كردية مسلحة بغايات خاصة أو قصف تركي أو مداخلات حشد شعبي أو مزايدات دينية ولافتات وشعارات مذهبية.

ناديا مراد تبرعت بقيمة جائزة نوبل الممنوحة لها لبناء مستشفى في مدينتها عجزت عن تشييده الحكومة. هذه الجائزة ستتجه لتقرير مصير إحدى اللحظات الفاصلة من تاريخ العراق بعيدا عن الحرب الباردة بين ميليشيات النظام السياسي الغارقة في ظلام المشروع الإيراني والمشاريع الدولية؛ إنها حرب باردة على صفيح تنذر بتداعيات ساخنة تعيد كركوك إلى واجهة الأحداث في العراق بأبعد مما يجري في شنكال التي كانت تدعى سنجار.