حال غيرهم من الشعوب، احتار العرب قبل الإسلام في أمر الموت، فخافوا منه ومن المصير المجهول الذي ينتظرهم، وتملكتهم رغبة دفينة في البعث والحياة مرة أخرى.
 
فقد عرفوا الموت باعتباره سكون الجسد بعد مفارقة الروح له، وتصوّروا أن روح الميت تخرج من أنفه أو من فمه فينفض الإنسان نفسه.
لذلك قالوا عن الإنسان لمّا يموت ميتة طبيعية: "مات حتف أنفه"، و"مات حتف فيه"، أي أن روحه خرجت من أنفه أو فمه. أما القتيل والجريح، فتخرج روحه من موضع جرحه، حسبما يذكر الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
 
واحتلت الروح مساحة من تفكير الإنسان العربي قبل الإسلام، فصوّرها على هيئة طائر يخرج من الجسد بعد الموت، ويطير مرفرفاً في الأعالي، بحسب علي.
خوف من المجهول
رغم أن البعث لم يكن ضمن تصوّرات العرب قبل الإسلام، فإن ذلك لم يمنعهم من التفكير في الجانب الآخر من الموت. يذكر الدكتور علي حسن جاسم وفردوس ياسين عبد الله في دراستهما "القبر في عقائد العرب قبل الإسلام" (منشورة في العدد 11 من مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية) أن الفناء عندهم كان للجسد وحده، ولذلك أدركوا "أن الموت ليس النهاية التي ينتهي عندها مسار الحياة، وإنما هو عبور إلى حالة أخرى يحل الإنسان فيها أو روحه طيفاً على عالم آخر، أو في مرحلة ينتقل فيها من حالة إلى حالة أخرى من أحوال الوجود".
 
لذلك، فإن خوفهم من الموت لم يكن خوفاً من العدم، وإنما خوف من المجهول الذي ستؤول إليه أرواحهم، وهو مجهول أخاف العرب من الأموات خوفاً عظيماً، لا سيما الأبطال المحاربين والزعماء البارزين الذين كانوا يرعبونهم في حياتهم ويدافعون عن القبيلة.
 
ودفع ذلك الناس إلى عبادة أسلافهم والتقرب إليهم والاحتماء بهم واتخاذ قبورهم مزارات مثل ضريح تميم بن مرة، لأنهم اعتقدوا ببقاء روح الميت وقدرتها على حماية الأحياء أو إلحاق الأذى بهم، حسبما ذكر الدكتور محمد سهيل قطوش في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام".
 
الرجعة والمسخ والتناسخ
اعتقد قوم من العرب قبل الإسلام بـ"الرجعة"، أي رجوع الشخص إلى الدنيا مرة أخرى بعد الموت، ليكون حياً مجدداً كما كان، ولعل هذه العقيدة هي التي حملت بعضاً منهم على دفن الطعام وما يحتاج إليه الإنسان مع الميت في قبره، ظناً منهم أنه سيرجع ثانيةً إلى الدنيا، فيستفيد منها، ولا يكون معدماً فقيراً، بحسب علي.
 
واعتقد آخرون بـ"المسخ"، أي تحوّل الإنسان إلى صورة أخرى أقبح، أو إلى حيوان، كأن يصير قرداً، أو إلى جماد. من ذلك ما رُوي عن "اللات" من أنه كان رجلاً يُعِدّ الطعام للحُجاج عند صخرة بالطائف، ولما مات قال لهم عمرو بن لحي (يقال إنه أدخل عبادة الأصنام إلى مكة) إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة التي كان يدق عليها الطعام، ثم أمرهم بعبادتها وبنى عليها بيتاً له كسوة وحُجاب، وكان العرب قبل الإسلام يحجون إليه ويُضاهون به الكعبة.
 
كذلك، رُوي عن الصنمين "إساف" و"نائلة" أنهما كانا رجلاً وامرأة عملا الفاحشة في الكعبة، وكان العرب قبل الإسلام يقدسونها ويطوفون حولها، فمُسخا حجرين.
 
ومن العرب مَن اعتقد بـ"التناسخ"، أي حلول الروح بعد خروجها من الجسد في جسد آخر، فاعتقدوا أنه إذا مات الإنسان أو قُتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء من جسده ليتكون طير كالبومة سُمّي بـ"الهامة"، وسُمّي الذكر منه بـ"الصدى"، وكان بعضهم يقول إن عظام الموتى تصير "هامة"، بينما يتحوّل حشو الرأس إلى "صدى".
 
واعتقد عرب أنه إذا لم يُؤخذ بثأر المقتول، ينادي الهامة أو الصدى عند قبر صاحبه: "أسقوني من دم قاتلي". وكان الطائر، بحسب هذا الاعتقاد، يطير ثم يرجع إلى رأس القبر كل مئة سنة. وهذا الاعتقاد برأي جاسم وعبد الله يحمل إشارة خفية إلى رغبتهم الدفينة بالبعث والحياة من جديد، لأن هذا الطائر الأسطوري يرمز إلى ربط عالم الأحياء بعالم الموتى.
 
البلية المعكوسة والبعث
في كتابه "الحياة والموت في الشعر الجاهلي"، يعرض الدكتور مصطفى عبد اللطيف جياووك ما ذكره الرواة عن "البلية"، وهي ناقة تُربط عند قبر الميت ويكون رأسها معكوساً إلى الوراء، وتُترك حتى تموت جوعاً وعطشاً، وكان مَن يقومون بذلك يعتقدون أن الميت يُحشر راكباً عليها، فإذا لم تكن له "بلية" حُشر راجلاً، أي على قدميه، وهذا يوحي بأن المحشر حسب تصوّراتهم يقع في مكان بعيد.
 
وبحسب علي، فإن كلمات القيامة والبعث والحشر والجنة والنار قد تكون لها مفاهيم عند العرب قبل الإسلام قريبة من مفاهيها الإسلامية، ولكنّ أهل الأخبار لم يوضحوا طبيعة معتقدات العرب بالبعث والحشر، وبالتالي "ليس في استطاعتنا اعطاء صورة واضجة عن الحشر وما يحدث بعده من تطورات".
 
ويُحتمل أن يكون لـ"البلية" فائدة تتعلق بحياة المبعوث، انطلاقاً مما عهده العرب في الصحراء من اعتمادهم على الإبل في المأكل والملبس والسفر، خاصة أن مقابر جنوب شبه الجزيرة العربية وُجدت فيها أدوات يستعملها الإنسان في حياته كالحليّ، ما يدل على اعتقادهم بامتداد الحياة بعد الموت. ومع ذلك يرى جياووك أن "هذا لا ينبغي أن يدفع إلى المجازفة في تصور مدى انتشار عقيدة البعث بين أهل الجاهلية".
 
وبحسب جاسم وعبد الله، ترجع جذور العقيدة المتصلة بالحيوانات وصلتها بالقبور إلى عصور ما قبل التاريخ، فكل عصر كان فيه حيوان مقدس يُدفن مع الميت في قبره أو يُذبح عنده، وكان للطيور النصيب الأكبر، لعلاقتها بالروح والبعث من القبر والرحلة إلى العالم الآخر.
 
وذكر جياووك أن محمد بن حبيب بن أمية ذهب في كتابه "المحبر" إلى أن أكثر العرب كانوا مؤمنين بالبعث والحساب، مستنداً إلى ذكر بعض الشعراء للبعث والحشر والحساب في أشعارهم.
 
فقد قال أمية بن أبي الصلت "ويوم موعدهم أن يحشروا زمراً/ يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر"، وقال ميمون بن قيس الملقب بـ"الأعشى": "بأعظم منك تُقى في الحساب/ إذا القسمات نفضت الغبارا"، وقال الأخنس بن شهاب "وعلمت أن الله جاز عبده/ يوم الحساب بأحسن الأعمال"، وقال زهير بن أبي سلمى "فيؤخر فيوضع في كتاب فيدّخر/ ليوم الحساب أو يعجّل فينقم".
 
لكن ذلك برأي جياووك لا يكفي لتدعيم قول ابن حبيب.
 
ويتفق علي مع جياووك، فيذكر أن الذين قالوا بالبعث طائفة لا تصل إلى مستوى الكثرة، كما أن المروي عن العالم الثاني قليل، لذلك لا يمكن تكوين صورة واضحة عن رأي أصحاب هذا الشعر في البعث.
 
ويذكر أن أمية هو "الشاعر الجاهلي الوحيد" الذي شهد أكثر شعره على نزعات دينية وفكرية، لأنه كان في شك من عبادة قومه، وتأثر باليهودية وبالنصرانية، وفي شعره اعتقاد بالجنة والنار والبعث وبصحة المعاد الجسماني وبوجود الجنة والنار بالمعنى الحقيقي لا المجازي. أما الأعشى وزهير فكانا يؤمنان بالله وبالحساب.
 
يدعم إنكار العرب للبعث أيضاً أن الكتابات السابقة على الإسلام لم تتحدث عما سيحدث للإنسان بعد موته، وكل ما ورد فيها هو توسل إلى الآلهة بأن تُنزل غضبها على كل مَن يحاول تغيير قبر أو إزالة معالمه، أو دفن ميت غريب فيه، وأن تُحلّ عليه الأمراض والآفات والهلاك.
 
وتأسيساً على المرويات الإسلامية، يذهب جياووك إلى أن العرب قبل الإسلام ربما عرفوا في عقائدهم البعث، ولكن على نحو يختلف عما جاء في الإسلام، من خلال خليط من الأساطير والخيال الساذج، مثل أقاويلهم في الهامة والصدى.
 
أما الحساب فلا يمكن الجزم بانتشار الاعتقاد به بين العرب قبل الإسلام، رغم أنه كان من عقائد أهل الكتاب من العرب وغيرهم، وربما تأثر بهم من خالطهم واتصل بهم.
 
الاعتناء بالقبر... أكثر من دلالة
اعتنى العرب قبل الإسلام بالقبر اعتناءً شديداً، فكانوا يرجّمونه، أي يعلمونه، وإذا كان للميت منزلة وشرف بنوا على قبره قبة أو بيتاً أو بناء مشرّفاً، فخراً وتعاظماً وزهواً، وكانوا يجعلون لقبر الشريف حرماً لا يسلكه راكب ولا ماشٍ، وكانوا يسكبون عليه الخمر.
 
وبحسب عبد الله وجاسم، ارتبط الخمر من حيث كونه قرباناً يُقدَّم للأوثان بفكرة انتشرت عند الساميين ومنهم العرب، بأن الأموات تعطش كثيراً، وأن الشراب أسمى من الطعام في القرابين، لأنه يروي عطش الروح بعد الموت.
 
وكان من عادات العرب قبل الإسلام حلق شعر رؤوسهم كله ورميه على قبر الميت، وكانوا يقومون بذلك إكراماً له، لأنهم كانوا يحلقون رؤوسهم قرب الأصنام عندما يحجون إليها، ولهذا كان لرمي ظفائرهم عند القبر أهمية خاصة، إذ كانت للشعر في نظرهم قوة وحياة، ومن ثم فإن رميه على القبر فيه تضحية كبيرة وصلة تربط الموتى بالأحياء.
 
ويذكر علي أن النصوص السابقة على الإسلام لم تذكر السبب الذي حمل العرب حينذاك على التشدد في المحافظة على القبر وعلى ضرورة بقائه ودوامه، "فلا ندري إذا كان ذلك تفكير بوجود بعث، وبتصور قيام الميت من قبره مرة أخرى، ورجوعه ثانية إلى الحياة، أو إلى عالم ثان هو عالم ما بعد الموت، ولهذا حرصوا حرصاً شديداً على عدم السماح بدفن أحد في قبر إلا إذا كان من أهل صاحب القبر ومن ذوي رحمه، حتى لا يتأذى الميت من وجود الغرباء، وليستأنس بأهله وبذوي قرابته مرة أخرى بعد عودة الحياة إليه، فيرى نفسه محشوراً معهم، ومع مَن أحبه في حياته".
 
وقد يكون حرصهم على القبر راجعاً إلى مراعاتهم لحرمته، ولمنزلة الموتى. وكان هناك مَن يعتقد أن الميت وإن غُيّب في قبره وانقطعت علاقته بآله وذويه، إلا أن روحه لا تموت، ويظل يقظاً، متتبعاً لأخبار أهله التي تخبره بها "هامته".