إدانة قرار الرئيس دونالد ترامب إعادة القوات الأميركية من سوريا، على صغر حجمها الى بلادها، كبيرة، رغم عدم امكان تحوّلها شاملة بسبب شعبيته (40 الى 43 في المئة من الناخبين). وقد اشترك فيها شيوخ ينتمون الى الحزب (جمهوريون)، وأثار ذلك استحسان الديموقراطيين وكذلك الفئات الشعبية المتنوعة المعادية لسياساته. ورغم ذلك لن يتراجع ترامب استناداً الى متابع جدّي في واشنطن. فقد عانى أخيراً اسبوعيْن سيّئيْن جداً على الصعيد القانوني، جرّاء معرفته أن المحقق الخاص مولر صار قريباً من إنجاز تحقيقه، وأن فيه الكثير مما يطاله مباشرة أو مداورة، مثل فشله في إقناع الغالبية اللازمة في مجلس الشيوخ بتمويل بناء الجدار على الحدود مع المكسيك، المانع لتدفّق المهاجرين منها ومن دول أخرى مجاورة لها الى بلاده، ومقاومته أعضاء فيه جمهوريين وديموقراطيين عقاباً لهم على رفضهم التمويل المذكور بإقفال مؤسسات الدولة بكل إداراتها. لكلّ ذلك قرر خطوة حاول بواسطتها تعبئة قاعدته الشعبية بالتزامه تنفيذ ما تعهد تحقيقه أمامها في حملته الانتخابية بعد فشله في موضوع الجدار، وقضت بسحب القوات الأميركية من سوريا. كيف يلغي ترامب الضرر الذي لحق به في الكونغرس وخارجه جرّاء قرار الانسحاب من سوريا؟ ربما بخيار من ثلاثة، يجيب المتابع نفسه. الأول التلكؤ في تنفيذه والمماطلة المتعمّدة، ولا سيما بسبب عدم وجود خطة جاهزة بديلة من الانسحاب، وهذا أمر يأمل مستعملو المماطلة في أن يُدرك خطأه الجسيم ويعود عنه. والثاني توزع القوة العسكرية الأميركية في سوريا على أماكن عدّة داخل المنطقة غير المستعادة من النظام. وفي هذا المجال يُظنّ أن قسماً منها سيوزّع على أماكن أخرى ربما أقرب الى الحدود العراقية، وربما ينضم بعضها الى القوة الأميركية المتمركزة في العراق. وهذا أمر لا بد أن يرضي تركيا وتحديداً رئيسها أردوغان وحلفاء أميركا الذين لهم قوات أيضاً في المنطقة نفسها. وتؤكد ذلك معلومات جهات أميركية واسعة الاطلاع وكبيرة الأهمية. وهي تشير الى أن تركيا لم “تنبسط” بقرار أميركا الانسحاب خلافاً لما يُشاع بعد اتخاذ القرار، والى أن رئيسها حاول إقناع نظيره ترامب بالبقاء لكنه لم ينجح في ذلك. ودافعها الى الموقف المُشار اليه هو رغبتها في دخول مناطق الأكراد في سوريا عسكرياً بوجود قوة أميركية فيها تلافياً لمبادرة الآخرين من أعداء وخصوم الى دخولها مثل سوريا وربما روسيا. وهذا ما يبدو أنه حصل، إذ استجاب الأسد ووافقت سوريا على طلب أكرادها دخول القوات النظامية الاخيرة مناطقهم لحمايتهم من تركيا وغيرها. وقد نقل هذا الطلب زعيم المجموعة الكردية المعنية في أثناء اجتماعه في دمشق باللواء علي مملوك رئيس “المخابرات…” وبالطبع وافقت روسيا عليه.
أما الخيار الثالث والأخير فهو عودة القوة العسكرية كلها الى بلادها تنفيذاً لقرار ترامب. لكن ذلك، يتوقع المتابع نفسه أن يؤدي الى استقالة “الراشدين” في حكومته. وقد فعل ذلك وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي آمن دائماً بالمواقف السياسية لترامب، والذي اكتشف بعمله معه غياب الاستراتيجية والدرس والعمق عن عمله وهوسه بـ”الانجاز” الشخصي، سواء كان مفيداً لبلاده وشعبها أو مؤذياً لهما، إذ استقال بكتاب خطي جدّي ومعلّل شرح فيه أسباب مغادرته المركب الرئاسي، ومنها عدم احترام ربّانه أو قائده تحالفاته الدولية وتعمّده إهانة حلفائه في العالم. لكن ترامب كشف في الوقت نفسه رغبته في التخلص منه، إذ قدّم موعد نفاذ الاستقالة من شباط الى أول العام الجديد (كانون الثاني المقبل). أما البديل منه كوزير مكلف أي غير أصيل فهو الجنرال شاننهان الذي لا يمتلك أي خبرة حكومية. فقد ساهم ذلك في جعل المواجهة مباشرة بينه وبين “السيناتور” (الشيخ) الجمهوري المتقاعد بعد انتهاء ولاية المجلس الحالي كوركر الذي قال قبل أيام: “سنعرف في الأشهر الثلاثة المقبلة إذا كان الرئيس ترامب سيُعاد انتخابه لولاية ثانية (عام 2020) أم لا”.
وكوركر يعبّر بكلامه هذا وغيره عن زملاء جمهوريين مثله في مجلس الشيوخ يمتنعون عن انتقاد سيد البيت الأبيض علانية، رغم بدء معظمم وضع مسافة بينهم وبينه، ومنهم صديقه ليندسي غراهام. ورغم أن المواجهة (اختبار القوة) مستمرة ورغم “تغريدات” ترامب، فإن لومه وتحميله مسؤولية ما جرى ويجري وسيجري يتصاعدان. ولم يبدُ حتى الآن أن الشيوخ الجمهوريين قد سارعوا الى الدفاع عنه. ويُرجّح أن لا يفعلوا ذلك قبل أن يوضح موقفه من توقيع قانون أصدره مجلسهم ولم يتضمن تمويل بناء الجدار مع المكسيك، سواء كان سلبياً أو إيجابياً.
وفي أي حال يقول المتابع الأميركي نفسه إن له رأياً في موضوع انسحاب قوات بلاده من سوريا، وهو يتمسّك به رغم كل ما قيل ويُقال. وجوهره أن على الرئيس بشار الأسد أن “يودّع بقبلة” قسماً مهماً من أرض بلاده حيث المساحة والثروات الطبيعية في حال نفّذ ترامب قرار الانسحاب المذكور. وجوهره أيضاً أن روسيا على أهميتها وحجم دورها الكبير في سوريا لن تكون قادرة على إخراج تركيا وقواتها العسكرية منها”. ويضيف: “ما أجده مشوّقاً أو ممتعاً هو الشائعات التي أسمعها والتي تفيد أن الاتحاد الأوروبي والحلفاء الأوروبيين لأميركا يمكن أن ينقلبوا على “السلطان” أردوغان إذا هاجم الأكراد في مناطقهم السورية.
علماً أنه سيستهدف هؤلاء إذا حصل على دعم ترامب، رغم أن ذلك سيدفع الكثيرين في القوات الأميركية المسلحة الى التقاعد (من مستويات عليا ومتوسطة)، لأنهم لن يؤيدوا مجزرة ضد الأكراد. في أي حال التشوّش والفوضى سيستمران في بلادي وسيكبر حجمهما”.