لا شفاعة «العدرا» أنقذَتْها، ولا ولادة المخلِّص، ولا «اتفاق مار مخايل».. فلا تزال في حالة تصريف الأعمال، ولا تزال «ممنوعةً من الصرف» الدستوري.

وهمْ، ما زالوا يؤلَّفونها، يعصرون أدمغتهم المتفوِّقة حتى النـزْف، كأنهم يؤلِّفون الأنسيكلوبيديا «دائرة المعارف» الفرنسية، التي أصدرها الفيلسوف «ديدرو» واشترك معه في تحريرها أصحاب الإبداع الفلسفي: فولتير، مونتسكيو، وروسو... القضيّة إذاً، تحتاج الى أعجوبة القديسين ونبوغ الفلاسفة... إنها قضية تأليف الحكومة في لبنان.

ولكنّ مدارك الفلاسفة في لبنان، لم تلحظ أنَّ تعاليم «دائرة المعارف» تلك، هي التي ساهمت في إعداد الثورة الفرنسية الشهيرة التي أطاحتْ التيجان والقصور، وأرستْ قواعد حقوق الإنسان.

لا يزال الشعب الفرنسي مـؤْتمناً على تاريخه التراثي، ولا تزال تعاليم روّاده حاضرةً في الذهن الثوري، ها هو يرتدي الستْراتِ الصفراء منتفضاً على السلطة الحاكمة، مؤكِّداً حقَّـهُ في رَغَـد العيش... هناك شعب يثور على ارتفاع سعر الوقود، وهنا شعب يهونُ أمام انخفاض سعر الإنسان.

الشعب عندنا خطفوه، وخطفوا معه الشارع الثـائر، كلُّ حزبٍ إقتطع كتلةً شعبية وسجَّلها مروَّضةً على إسمه، جعلوا من الشعب آلـةً مبرمجةً أوتوماتيكياً للصراخ بحياة الزعيم، وصادروا كل الألوان الشعبية والسترات الصفراء، ولم يبـقَ أمام الشعب لونٌ واحدٌ يرتديه.

هلْ نصدّق، أنَّ هناك حكاماً ومسؤولين وسياسيين ومواطنين وبَشَراً آدميين، يمكن أن يلعبوا بمقدّرات البلاد ومصير العباد على هذا النحو من سخافة المسؤولية والخفّة الصبيانية والنزعة الأنانية المتهوِّرة.

وهلْ نصدِّق، أن المسؤولين: حكاماً ونواباً وأحزاباً وسياسيين، يتراقصون سكارى أمام جريمةٍ تُرتَكَبُ باسمِ شعبٍ آمِـنٍ وكأنها مسألةٌ فيها نظَر...؟

يضحّون بالمقدّس للحصول على المدنّس، يدمّرون المملكة من أجل تاج ضائع، يسقطون الخليفة بهدف الخلافة، يعطِّلون ثلثي العهد من أجل ثلث معطِّل، ويعبثون بالحكومة للإنقضاض على الوزارات الحلوب، فتتحوّل «البيئة» فجأة الى حقيبة سيادية بكل صفقاتها وأوساخها ومزابلها، وأوساخهم ومزابلهم.

لا نصدّق أن قرار تدمير كلِّ كائـنٍ حيٍّ في لبنان يتمّ على يد أبنائه، فإنْ صحَّ ذلك فمصيبة لبنان بـهمْ عظيمة، وإنْ كان التعطيل بقرار خارجي فالمصيبـة تصبح أكبر وأحقر، عملاً بقول الشاعر:

وكمْ عندَ الحكومةِ مِنْ رجالٍ تراهُمْ سادةً وهمُ العبيدُ.
فخامة الرئيس... دولة الرئيس المكلَّف.

أمام هذا المسلسل الوطني المأتمي: لم يبقَ إلا قرارٌ إنقاذيٌ وطني واحد هو: أنْ تؤلِّفا الحكومة - ومِنْ دون استشارة أحد - مِنْ بعضِ مَنْ تبقّى في لبنان من أدمغة نابغة تكاد تُبلى بالُعقم، ومن بعضِ اللبنانيين الذين نبغوا في بلاد المهاجر فبنـوا في العالم دولاً، وحققوا للأوطان نهضةً، ورفعوا بعض الأمم الى القمم، ولتُطرَحْ هذه الحكومة على المجلس النيابي فإن أَسقطها المجلس، سقط المجلس في ظل هذه النقمة الشعبية العارمة. 

إنْ فعلتما يا فخامة الرئيس ودولة الرئيس، فقد يسجل لكما التاريخ مأثرةً وطنية، وإلا فما علينا في الثلثين المتبقِّيين من هذا العهد، إلا أن نتقبل لعنة الخطيئة الأصلية بحسب رواية «دم الآخرين» للكاتبة والمفكرة الفرنسية سيمون دي بوفوار، وهي أن يدفع الآخرون ثمن القرارات التي يتخذها الرؤساء، ولكي يستحقوا من يقودهم عليهم أن يتحملوا لعنة كونهم بشراً.