الإنسان شلة تناقضات. تلاحظ ذلك في مواقفه من هذه الظواهر الطبيعية التي طالما كشفت عن مدى الروح الشريرة في صدور الناس، بل وإحساسهم بها. فمما أتذكره عن كسوف الشمس تلك الموجة من الرعب والقلق التي ساورت نفوس الكثيرين من شعوبنا العربية، ممن آمنوا بأن الكسوف سيؤذن بنهاية العالم وقيام الساعة. وهو شيء يرتعب منه الناس، لا أدري لماذا! فالمفروض أننا قضينا حياة صالحة مليئة بأعمال الخير، ومحبة الخالق، وأداء الفرائض، ولم نرتكب أي فعل من أفعال الشر: لم نسرق من خزينة الدولة، ولا أخبرنا المخابرات عن جارنا، ولا غصبنا حقوق الأقليات. وبهذه الصفحة البيضاء الناصعة يجب أن نتطلع شوقاً لمقابلة وجه الله ودخول الجنة. فلماذا نخاف قيام الساعة؟


من الواضح أننا نخاف من ذلك لمعرفتنا بمدى شرورنا التي لا تؤهل أكثرنا لغير النار والعذاب وسوء المصير. وهكذا، كان الوجوم والرعب يخيم على نفوس كل من تصوروا أن كسوف الشمس يؤذن بالقيامة ويوم الحساب، وهو ما يذكرني بحكاية الملا جحا: اجتاحت عاصفة مريعة بلاد الإسلام، فهرع الناس إلى المساجد والصوامع يستغفرون ويتباكون ويصلون إلى الله - عز وجل - أن يرأف بهم، ويغفر لهم ذنوبهم، فاستوقفهم جحا، وقال لهم ناصحاً: «يا قوم، لا تستعجلوا وتستغفروا؛ هذه مجرد عاصفة سرعان ما ستمر وتنتهي»!


أتذكر أن وكالات الأنباء من القاهرة حملت قبل سنوات نبأ الصراخ والبكاء والرعب الذي انتاب أسرة أحد الموتى عند تشييعه إلى ما تصوروا أنه مثواه الأخير. ما حدث هو أن الميت استفاق من موته، ورفع رأسه وقام من تابوته، فتراكض الناس ذعراً وهلعاً بعيداً عنه، وراحوا يصرخون ويولولون في شوارع القاهرة. أمر عجيب في هذه المدينة المؤمنة التي غصت جوامعها وكنائسها وأزقتها بالمصلين والمتعبدين! يقتضي العقل والمنطق أن يهللوا ويكبروا ويزغردوا لعودة ابنهم حياً إليهم. ولكن لا، لم يحدث ذلك؛ ارتعدوا من عودته. هذا شخص آخر سيطالب بأكله وشربه وكسائه، سيطالب بأمتعته وتركته وامرأته ووظيفته، وجزمته وفانيلته، وكل شيء من صغير وكبير.


كنا في زمن الخير، نجلس ونلتف حول العائد من باريس أو لندن، ليحدثنا عما شهده فيهما من معالم الحضارة، عن حسناواتها وأطايب عيشها. وها هو رجل يعود من عالم الموتى، وبدلاً من أن يجلسوا ويستمعوا لتجربته ومشاهداته، وما إذا كان قد التقى بأجداده وأعمامه وخالاته، يهرعون منه كالمخبولين! لا أحد يتذكر أنه من الممكن لبعض الأشخاص أن يستعيدوا حياتهم بعد موتهم بعودة قلبهم لضخ الدم.


أمر عجيب أمر الإنسان؛ يبكون على صاحبهم عندما يموت، ويبكون منه عندما يعود من الموت؛ يدعون على جارهم بالموت، ثم يترحمون عليه بعد موته؛ يجوّعون ويشردون ويسجنون أبناءهم في حياتهم، ثم يخاصمون السلطات على مصيرهم.

 

خالد القشطيني