في جميع انتفاضات الجماهير واعتصاماتها كانت السلطات تحاول خداع المتظاهرين وتمنيهم وفي الوقت نفسه تدين المندسين.
 

إن أغلب حكّام القبضة الحديدية الواحدة، عندما تهب العواصف والانتفاضات والثورات، وتقترب من جدران قصورهم، يلجأون إلى شيئين متلازمين، الأول محاولة تنويم شعوبهم بوعدها بالحياة الكريمة التي انتظرتها لا بالأشهر ولا بالسنين بل بأرباع القرون وأنصافها، والثاني اتهام المندسين الخونة والعملاء باستغلال الظروف المعيشية الصعبة لإثارة الشغب والفوضى والخراب.

نادرا، ما خرج حاكم منهم علانية ليعترف بأنه وأسرته وبطانته أصل الداء والبلاء، وبأن هؤلاء المنتفضين مواطنون لهم حقوق مشروعة عادلة مغتصَبة وقد عيل صبرهم، وتقطعت بهم حبال الأمل في فرج قريب، ثم راح يكفر عن ذنبه، مشمرا عن ساعديه بادئا العمل الصادق المخلص النزيه العاجل من أجل تحقيق تلك المطالب، وتعويض أصحابها بالتي هي أحسن، دون وعود، ولا اتهامات، ولا تهريج.

إنهم لا يتوقعون، أو لا يُصدقون بأن لشعوبهم قدرة على الاحتمال ولكن حبلها قصير. فحين تحين الساعة ستثور براكينها،  وتدخل قصورهم، فتدكها دكا، ثم تجعلها خرائب تنعق فيها الغربان وتسكنها البوم.

كلهم، حين تمتلئ الشوارع والساحات بالآلاف من مواطنيهم المطالبين بالخبز والعدالة والكرامة يسارعون إلى إنزال جنودهم ورجال مخابراتهم وميليشياتهم ليواجهوا الجموع المسالمة بقنابل الدخان المسيل للدموع، فإن لم تعقل فبخراطيم المياه الساخة، فإن لم تتفرق فبالرصاص الحي، ثم بمهرجانات السحق والصعق والحرق والشنق حتى يتحول الوطن إلى مقبرة، والمشكلة التي كانت بسيطة والتي كان حلها أبسط منها صارت عصية على أي حل، ولم يعد سوى أن يموت الوالي، أو يموت جحا، أو يموت الحمار.

مناسبة هذا الكلام ما يجري في السودان، هذه الأيام الحزينة. فقد أبى الرئيس السوداني عمر البشير إلا أن ينهج نفس ما نهجه الذين سبقوه من حكام القبضة الحديدية الواحدة الذين أخطأوا الحساب فسقطوا تحت أقدام جماهيرهم قتلى أو هاربين ملعونين إلى يوم يبعثون.

والذي يجري في الخرطوم والمدن الأخرى المتململة في السودان هو نفس ما جرى، ويجري، في البصرة وبغداد ودمشق وحلب ودير الزور وبنغازي وطرابلس وبيروت وعبادان وقم وطهران، وفي جميع انتفاضات الجماهير واعتصاماتها كانت سلطات الرئيس القائد تحاول خداع المتظاهرين، وتُمنيهم بالمنّ والسلوى، ثم، في الوقت نفسه، تدين المندسين، وتلقي بالجريرة كلها على العدو القادم من وراء الحدود.

إن عمر البشير، الذي يحكم منذ 29 سنة، رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء وقائدا أعلى للقوات المسلحة، لم يحقق لشعبه الحياة الكريمة التي يتحدث عنها، ولكنه اليوم يعده بتحقيقها، ثم ينذره، في الوقت نفسه، بأن صبر حكومته وجيشه لن يطول إذا لم يَعقل، ولم يعد إلى طاعته قبل فوات الأوان.

سؤال مهم، ماذا ستكون دولة السودان عن قريب، ليبيا أم اليمن أم سوريا؟ وماذا سيكون البشير، حافظ وبشار أسد، أم حسني مبارك وزين العابدين؟ من يدري؟ ولكن خواتم الأمور لا تأتي إلا من بداياتها، وشجر الصبير لا ينتج عسلا، والأفعى لا تعطي إلا ما في جوفها من سموم.